بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول بل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
وبعد:
تكررت هذه المادة عشر مرات في النَّهْج، كما هو موضح في الجدول الآتي: [1]
اللفظ |
مرات وروده |
وزنه |
وَزَنَ |
مرة |
فَعَل |
تَزِنُوا |
مرة |
تَفِعلوا |
مِيزَان |
مرتان |
مِفْعال |
مَيزَاناً |
مرتان |
مِفْعالاً |
مَوازِين |
مرة |
مَفَاعَيل |
مَوَازِينه |
مرة |
مَفَاعَيله |
مُتَوازنين |
مرة |
مُتفَاعلين |
متوازيين |
مرة |
متفاعلين |
وقد ورد المصدر (وزن) في كلام الإمام (عليه السلام) ليدلُّ على معنيين:
1) المعنى الحقيقي (المادي): جاء مرةً واحدة في عهده للصحابي مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، لمَّا وَلَّاه مصر قائلا له: «وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينَ عَدْل، وَأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ»[2]، (بموازين عدلً) جار ومجرور متعلق بـ(بيْعَاً)، وعطف (أسعار) على (موازين) ومِن: بيانية، فلا بدَّ من تعيين السِّعر العادل ؛ لئلاّ يكون السّوق تحت سيطرة أرباب رؤوس الأموال واحتكاراتهم الرأسمالية[3].
2) المعنى المجازي: وتعني العدالة تكرر في كلام الإمام (عليه السلام) وخطبه في اكثر من موضع ويعني به ميزان الأعمال أو القيمة أو القدر أو العدل، فمجيء الفعل الماضي من مادة (وزن) مبنيا للمجهول مرة واحدة في النَّهْج.
فوزن على زنة (فَعَلَ) ومضارعه (يـَزِن) أصله يَوزَن، على زنة (يَفْعل) وقعت الواو بين ياءٍ مفتوحة وكسرة، فحذفت يـ ـَـ و/ زـِـ / نـ ــُ (يَفْعِلُ) تحذف الواو يـ ـَـ / ز ـِـ / ن ـُـ إعلال بالحذف، ويعني به هنا حذف حرف العلة: يـَزِنُ: مضارع زنة: فالأصلُ فيه يَوزِن على زنة (يَفْعِلُ)، إذ جاءت الواو بعد ياء المضارع، فحذفت للتخفيف، فصار (يَزِنُ) على زنة (يَعِلُ) يَ وُ زِ ن: يَ فُ عِ ل، فوقعت الواو وهي فاء الكلمة بعد ياء المضارعة المفتوحة وعينه مكسورة ؛ لذا حذفت. يَ زِ ن (يَعِل).
ووردت في خطبة للإمام (عليه السلام) بعد انصرافه من صِفِيِّن بَيـَّن َفيها حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبي فقال: « أحْمَدُهُ اسْتِتْماماً لِنِعْمَتِهِ، وَاسْتِسْلاَماً لِعِزَّتِهِ، واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلى كِفَايَتِهِ، إِنَّهُ لاَ يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ، وَلا يَئِلُمَنْ عَادَاهُ، وَلا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ ; فَإِنَّهُ أَرْجَحُ ما وزن، وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ »[4]، فـ(أرجح وأفضل) كلاهما اسما تفضيلٍ، وجاء الترصيع بالسجع بين (نعمته، عزته، معصيته، كفايته)، (هداه، عاداه، كفاه) و(وزن، خُزِنَ). وقد اسند الفعل (وزن) الى ضمير مستتر والحكم من استتاره الجواز، من الأعمال الصالحة في ميزان الخيرات. أي أفضل ما خبأه الانسان ليوم حاجته. والضمير راجع الى الحمد المستفاد من احمده او الى الله سبحانه فيكون معناه: أرجح ما وزن بميزان الأعمال، وأفضل ما خُزِن وادَّخر ليوم الجزاء ؛ لعظم فوائده وكثرة ثمراته، أو يرجع إلى الله. والمعنى: أنَّه أرجح ما وزن بميزان العقول وأفضل ما خُزِن بخِزانةِ القلوب، وهذا أقرب لفظا، فـ(الوزن والخزن) من صفات الأجسام، وذاته مقدسة عن ذلك، وعليه ؛ فالمراد رجحان عرفانه في ميزان العقل ؛ إذ لا يُزنة عرفانه عرفان ما عداه، بل لا يخطر ببال العارف عند الاخلاص سواه حتى يصدق هناك موازنته يقال فيها أرجح [5]، وكلمة (تَزِنُ) حدث فيها إبدال فاء الافتعال تاءً: اذا وقعت فاء الافتعال واو كما في (اتًزَن) ابدلت الواو تاء، وادغمت في تاء الافتعال، فالأصل (إوتزن): وقعت تاء الافتعال واواً فأبدلت تاءً وادغمت في تاء الافتعال.
وفي خطبة له (عليه السلام) تشتمل على قدم الخالق وعظم مخلوقاته قائلا: «عِبَادَ اللهِ، زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزنوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا»[6]، فـ(تُوزنوا واتُحَاسَبُوا) أسندا إلى الف الإثنين ويريد: راقبوا أنفسكم بالمحافظة في الأعمال، والقيام بالواجبات في الدُّنيا محافظة الوزن قبل أن تُوزن أعمالكم في القيامة، والمُراد بالوزن في الدنيا اعتبار الأعمال وضبطها بميزان العَدل، وأما الوزن في الآخرة فهو العَدل[7].
وجاء (ميزان) على زنة (مـِفْـعال) وهو اسم للآلة، وهذه الصيغة بحثها العلماء عند تعرضهم للإعلال كـ(ميراث وميقات وميعاد)، إذ قلبت الواو ياء قال سيبويه: «فمن ذلك قولهم: المِيزان، والمِيعاد ؛ وإنَّما كرهوا ذلك كما كرهوا الواو مع الياء في ليـًـة، وسيد ونحوهما، وترك الواو في مِـوْزان أثقل»[8].
وقد عَلَلَّ سيبويه قلب الواو الساكنة ياءً ؛ إذا انكسر ما قبلها بالكراهة أيضا قائلاً: «وإنّما كرهوا الواو مع الياء في ليَّة وسيِّد ونحوهما وكما يكرهون الضمة بعد الكسرة حتى أنَّه ليس في الكلام أن يكسروا أول حرف ويضموا الثاني نحو فِعٌل »[9].
وحَمَلَ قلب الياء واوا على هذا، قائِلاً: « فان اسكنتها وقلبها ضمة قلبتها واوا كما قلبت الواو ياء في ميزان»[10]، وقد رفض المحدثون ما قاله سيبويه، فالأصل في (ميزان وميعاد) مِوْزَان ومِوْعَاد[11].
مِيزان: على زنة (مِفْعال) أصله (مِوْزان) قلبت الواو ياءا ؛ لسكونها وإنكسار ما قبلها حدث فيها إعلال بالقلب (مـ ـِـ و/ زـَـَ ن) تقلب الواو ياءً(مـ ـِـِ / زـَـَ ن) وقد عارض أبو علي الفارسي (ت 377هـ) ما ذهب إليه سيبويه بقوله: «:» الياء وهي تبدل من الواو إذا كانت فاءا أو عينا أو لاما، فابدالها من الواو فاءا نحو ميقات وميعاد وهو من الوقت والوعد » أي انه يرى ما حدث في مِيزان من قبيل الإبدال»[12]..
وهذا ما يرفضه الدرس الصوتي الحديث لأنَّ العربَ لا تلفظ الكسرة وبعدها ضمة أو واو، فما حدث في ميزان هو إعلال بالقلب.
ويصرح المحدثون ومنهم د. سمية المنصور أنَّ هذا التغير الذي طرأ جاء على وفق قانون المماثلة؛ لتجاور الأصوات مع بعضها[13].
قال (عليه السلام) في خطبته التي بين فيها مواعظا للناس قائلا فيها: «وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ، لاَ يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ، وَلاَ يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنُهُ»[14].
فالثِّقل هنا: قول الشهادتين والعمل الصالح، وكونهما صادرتين من صميم القلب واليقين فحينئذ تصعدان الكلمات الطيبات، فلهما أثرهما في ثقل الميزان ورفعه[15].
فالميزان هنا لا يراد منه الآلة المعروفة، وإنَّما قصد منه معنى العدل، والإنصاف، والاستقامة[16]، وجاء الجمع على زِنَة (مَفَاعيل) وهي من صيغ منتهى الجموع[17].
وبهذا فإنَّ هذه الصيغة دَلَت على المبالغة وتعدد الميزان لأنَّ لكلِّ فردٍ موازين كثيرة.
و الوزن: «ثقل شيء بشيء مثله، كأوزان الدًراهم، ويقال: وزن الشيء اذا قدره، وزنة ثمر النخل اذا خرصه». ووزنت الشيء فاتّزن (وزن يَزِن وزنا). والمِيْزَان ما وزنت به»[18].
أو هو «ثقل شيء بشيء مثله كأوزان الدراهم، وزن الشَّيء وزناً وزِنَة» [19].
أو روز الثقل والخفة، والمثقال جمعه: أوزان، فالزنة هو المثقال وجمعه: أوزان[20]..[21].
[1] ظ: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 1575 ـ 1576.
[2] نهج البلاغة: ك53، 329.
[3] ظ: منهاج البراعة: 20 / 231.
[4] نهج البلاغة: خ 2، 12.
[5] ظ: منهاج البراعة: 8 / 215.
[6] نهج البلاغة: خ 90، 81.
[7] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 6 / 307.
[8] الكتاب: 4 / 335.
[9] المصدر نفسه.
[10] المصدر نفسه.
[11] الإعلال والإبدال بين النظرية والتطبيق: 260.
[12] التكملة: تح: كاظم بحر المرجان: 571
[13] ظ: الإعلال والإبدال في الكلمة العربية: شعبان صلاح: 15، 26.
[14] نهج البلاغة: خ 114، 119.
[15] ظ: منهاج البراعة: 8 / 50.
[16] ظ: البنية المصدرية في نهج البلاغة (رسالة ماجستير): وسام جمعة لفتة: 129..
[17] ظ: جامع الدروس العربية: مصطفى الغلاييني: 2 / 36.
[18] ظ: العين (مادة وزن): 7 / 386.
[19] لسان العرب (مادة وزن): 6 / 4828.
[20] ظ: القاموس المحيط: 4 / 243.
[21]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 54 –59.