بقلم: د. عبد الزهرة جاسم الخفاجي
الحمد لله حمد الشاكرين، والشكر لله شكر الذاكرين، والصلاة وأتم التسليم على خاتم النبيين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
ورِث الإمام علي (عليه السلام) تركة ثقيلة من خلافة عثمان التي وإن حاول المودودي ان يجَمِّلها لكنه وصفها بأنها سياسة «غير مريحة للناس»[1] وما أن بويع (عليه السلام) بالخلافة حتى أعلن عن هدفه من قبولها قائلاً: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ»[2].
ومن المعالجات التي وضعها الإمام علي (عليه السلام) لتطبيق منهجه الإصلاحي أنَّه وضع هيكلاً صنَّف فيه الرعية إلى طبقات وبين أهمية كل طبقة وكيفية التعامل معها بما يصلحها؛ فقد جاء في عهده لمالك الأشتر (رضي الله عنه): «واعلَم أنَّ الرَّعية طَبَقَات لا يَصلُحُ بَعضَها إلا بِبعضٍ، ولا غِنى بِبعضِها عَن بَعضِ. فَمِنْها جُنودُ الله، ومِنْها كِتابُ العَامَّة والخاصَّة، ومِنْها قُضاةُ العَدْل، ومِنْها عُمّالُ الإنْصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة»[3].
إنّ هذا التقسيم لايعني تمييز طبقة على حساب طبقة , فالطبقات في كلام الإمام علي بمعنى «فئات اجتماعية، ولم تكن في ذلك الحين قد تضمنت معناها الذي تعنيه الآن»[4].وإنّما هو تقسيم لغرض التعامل مع كل طبقة بما يناسبها ويتفق مع حاجتها للإصلاح لأنَّ مايصلح لطبقة قد لايصلح للأُخرى ولم يكن ترتيب الطبقات الذي ورد في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) على أساس قيمتها الاجتماعية وإنما كان على أساس أهمية الخدمة التي تقدمها للمجتمع.
وفي دراسته لموضوع الطبقات في عهد الإمام علي (عليه السلام) يقسم محمد مهدي شمس الدين الطبقات الى مجموعتين:
المجموعة الأولى:
طبقات افترض الإمام علي (عليه السلام) وجودها وتحدث عنها كأهل الخراج والتجار والصناع والمعدمين.
أهل الخراج:
كان الإمام علي (عليه السلام) يَحمل عماله على ممارسة الحكم الذي يقوم من أجل الرعية. فيتحدث عن أهمية أهل الخراج والمراد بهم (الزُرّاع)؛ ذلك لأن الخراج هو ضريبة الأرض ومصدر التمويل الرئيس إنْ لم يكن المصدر الوحيد الذي يُمول احتياجات الدولة المالية سواء أكانت كانت رواتب الجند أم إعانة أصحاب الحاجة من بقية المجتمع[5].
وكان اقتصاد مصر آنذاك يقوم على القطاع الزراعي مما يعني أنّ ازدهار النشاط الاقتصادي يتوقف على طبقة (اهل الخراج) ولذلك يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على الاهتمام بالخراج بما يصلح أهله فيقول لمالك (رضي الله عنه): «وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ وَصَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ وَلَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ»[6].
إنّ سياسة الإمام علي (عليه السلام) في الخراج تهدف إلى إصلاح الزراعه بالشكل الذي يقود إلى إصلاح طبقات المجتمع الأخرى.
وكان (عليه السلام) يكتب إلى أمراء الأجناد فيقول: «أنشدكم الله في فلاحي الأرض أنْ يظلموا قبلكم»[7] فإصلاح أهل الخَراج (الزراع) يعتمد على مقدار مايؤخذ منهم كخراج ومن ثَمَّ فإن صلاح الرعيه يعتمد على صلاح أهل الخراج لأن «النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ»[8].
حتى جباية الخراج كان الامام علي (عليه السلام) يراعي فيها صلاح الرعية فيؤكد على جباة الخراج قائلا: «إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيفا ولا رزقا يأكلونه ولا دابة يعملون عليها ولا تضربن أحدا منهم سوطا واحدا في درهم ولا تقمه على رجله في طلب درهم ولا تبع لأحد منهم عرضا في شيء من الخراج فإنا إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو»[9]. ولم يكتف (عليه السلام) بالوصية وإنما يتبعها بتذكير الجباة بمخافة الله ثم يهددهم بالعزل إن لم ينفذوا ماأمرهم به : «فَإِنْ أَنْتَ خَالَفْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ يَأْخُذُكَ اللَّهُ بِهِ دُونِي وَإِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ خِلافَ ذَلِكَ عَزَلْتُكَ...»[10].
التجار والصنّاع
ثم ينتقل (عليه السلام) إلى فئة التجار وهي طبقة مهمة من طبقات المجتمع لها أثرها الكبير على المجتمع كله، وأيُّ اضطراب يصيب هذه الطبقة ينعكس على استقرار المجتمع؛ لأنها هي التي تتحكم بتوفير السلع وحركتها بين الناس، فإذا ماصلحت هذه الطبقة صلحت أحوال الرعية، ويكمل عمل التجار طبقة الصناع فالتجارة والصناعة على علاقة مهمة ببعضهما وفي صلاحهما يترفه المجتمع ولأهمية هاتين الطبقتين يوصي بهما (عليه السلام) فيقول لمالك (رضي الله عنه) : «ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً»[11].
والإمام علي (عليه السلام) يقسم التجار على قسمين: تاجرمقيم في بلده، وآخرمتنقل بين البلدان، ومع أنّه (عليه السلام) يصفهم بقوله: «سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته»[12]؛ لكنه يُحَذِّر من خطر هذه الفئة فيما لو أصابها الإنحراف؛ لأن انحرافها يؤدي إلى اضطراب أمر الرعية سواء أفي التحكم بعرض السلعة واحتكارها أم التلاعب بأسعار السلع، والموازين والمكاييل فيقول: «واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة»[13]؛ فيوجهه إلى كيفية التعامل مع هذا الانحراف كي تصلح الأمورقائلاً: «فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَنَعَ مِنْهُ وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ»[14]. ويأمره بمحاسبة من يخالف ذلك فيقول: «فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ»[15].
هكذا كان الإمام علي (عليه السلام) يتعامل مع عناصر اقتصاد الأمة، ويهيِّيء كل السبل التي تجعل هذه العناصر في خدمة الرعية.
الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ
حظيت هذه الطبقة باهتمام الإمام علي (عليه السلام) أكثر من غيرها من طبقات المجتمع الأخرى، لأنها تشكل القسم الأكبر من الرعية لا في عهد الإمام علي (رضي الله عنه)؛ فحسب وإنما في كل زمان ومكان. وكانت وصيته للأشتر( رضي الله عنه) : «الله الله فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى»[16] وقد وَصَفَ من يقع تحت عنوان هذه الطبقة بـ «الذين لاحيلة لهم»[17] وعرَّفهم قائلاً: «مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَ والزَّمْنَ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً»[18].
ويؤكد الإمام علي (عليه السلام) على الولاة مباشرة هذه الطبقة بأنفسهم، وعلى الوالي أنْ يتولى بنفسه تنفيذ ما يترتب لها من حقوق في مختلف المجالات، فعلى المستوى المعاشي بين مصادر تخصيصاتهم المالية «وأجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وقِسْماً مِنْ غَلاتِ صَوَافِي الإسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ»[19]، ولم يكتفِ بالجانب الإقتصادي وإنما أهتم بالجانب المعنوي فقد أمَرَ واليه أن يخصص جزءاً من وقته يتفرغ فيه لهم شخصياً للإلتقاء بهم والجلوس معهم مذكراً إياه أنّ مايقوم به هو من باب التواضع لله «واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ»[20].
لا شك أنَّ معاملة الإمام علي (عليه السلام) لهذه الطبقة بهذه المعاملة يُعَدُّ بمثابة إصلاح لها. فقد جنبها الكفر لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كاد الفقر ان يكون كفراً»[21] وعندما يكون الفقر «أشدَّ من القَتْل»[22] وإنّ «القبر خير من الفقر»[23], فإنّه يتحول إلى عامل يؤدي إلى الانحراف وقد شَخَّصَ الإمام علي (عليه السلام) ماينتج عن الفقر من خصال فقال: «من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال، بالضعف في يقينه والنقصان في عقله والدقة في دينه وقلة الحياء في وجهه فنعوذ بالله من الفقر»[24] وإنّ من يحمل هذه الصفات لايكون بمقدوره أنْ «يكون فاضلا، وإنّ من اللغو أنّ يوعظ بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وإنّ إنسانا كهذا ينقلب كافرا بالقيم والفضائل. وإنّ معدته الخاوية وجسده المعذب ومجتمعه الكافر بإنسانيته المتنكر له وشعوره بالاستغلال وميسم الضعة الذي يلاحقه أنى كان،هذه كلها تجعله لصّاً وسفاحاً وعدوًا للإنسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة»[25]. وعلى ضوء ماتقدم، علينا أن نتصور مجتمعاً تتصاعد فيه نسب الفقر كم سيكون مستوى الانحراف فيه؟.[26].
الهوامش:
[1] المودودي، أبو الأعلى، الخلافة والملك، تعريب: أحمد المدرس، الكويت، دار القلم، ط1، 1978م، ص69.
[2] صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص189.
[3] شرح نهج البلاغة، 17/48.
[4] شمس الدين، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، بيروت، دار الزهراء، ط2- 1972م، ص29.
[5] يُنظر: م. ن.
[6] شرح نهج البلاغة، 17/70.
[7] الحميري، عبد الله بن جعفر القمي (ت300هـ) قرب الاسناد، تحقيق: مؤسسة آل البيت، قم، مهر، ط1، 1413 هـ،ص138.
[8] شرح نهج البلاغة، 17/70.
[9] أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم (ت183هـ) كتاب الخراج، بيروت، دار المعرفة، 1979م، ص16.
[10] م. ن.
[11] شرح نهج البلاغة، 17/83.
[12] بن حمدون،محمد بن الحسن بن محمد بن علي (ت 562هـ) التذكرة الحمدونية، بيروت، دار صادر، ط1، 1417هـ، 1/323.
[13] م. ن.
[14] شرح شرح نهج البلاغة، 17/83.
[15] م. ن.
[16] شرح نهج البلاغة، 17/85.
[17] م. ن .
[18] م. ن.
[19] م. ن.
[20] شرح نهج البلاغة، ص87.
[21] المتقي الهندي، علاء الدين علي (ت975ه) كنز العمال، تصحيح: صفوة السقا، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط5، 1985، ح 16682، 6/492.
[22] ميزان الحكمة، ح 15991، 8/3229.
[23] م.ن، ح 15993، 8/3229.
[24] القبانجي، مصدر سابق، 9/308.
[25] محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص390.
[26] لمزيد من الاطلاع ينظر: صلاح الراعي وإصلاح الرعية قراءة في عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر رضوان الله عليه: للدكتور عبد الزهرة جاسم الخفاجي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 88-98.