من الفكر السياسي عند الإمام علي عليه السلام: منهجه في مواجهة القاسطين الحلقة السادسة: منهجه عليه السلام في مواجهة سياسة معاوية.

مقالات وبحوث

من الفكر السياسي عند الإمام علي عليه السلام: منهجه في مواجهة القاسطين الحلقة السادسة: منهجه عليه السلام في مواجهة سياسة معاوية.

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 20-07-2022

بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

وبعد:
ان سياسة معاوية مبنية على التلون حسب مقتضيات الظروف، مع استخدام جميع الأساليب المتاحة التي تمكنه من غرضه، فتارة يطالب بدم عثمان واخرى يلح على علي (عليه السلام) بإقراره على الشام، تم أنه يهدد تارة ثالثة بالحرب، ويأمر بقتل النساء والأطفال وترويع الآمنين[1]، في الوقت نفسه الذي ينادي فيه بانها الحرب، لما أحدثته من خسائر في الأرواح والأموال مستجيراً في ذلك برابطة الرحم[2]. على ان موقف علي  (عليه السلام) من كل تلك الأساليب المتلونة واحد لم يتغير، وهو اعتبار معاوية فرداً من أسرة هدفها جعل الإسلام مطية لتحقيق أغراضها، فوجودهم ضمن المجتمع الإسلامي فتنة شغلت حيزاً واسعاً من فكر علي (عليه السلام)، فتكرر ذكرهم في نهج البلاغة ما يقارب من اربع وخمسين مرة في ثمانية وثلاثين نصا أثرت عن علي (عليه السلام)[3]، مما يعني استيعاب قضيتهم لمساحة واسعة من فكره السياسي، ليس بصفتهم معارضة هدفها اثراء الحوار الفكري والسياسي، ولكن لكونهم خطراً يهدد الإسلام من الداخل، ويحاول تقويض دعائمه الرويحة، لذلك فإن من أهم الأسباب التي جعلت علياً (عليه السلام) يقبل الخلافة، في وقت لم تكن فيه الا مجرد مشكلة سياسية معقدة تجلب المتاعب والمحن لمن يتقلدها، الا لخوفه من استحواذ بني أمية عليها مما يتيح لهم تصريف شؤون الدين بحسب أهوائهم[4].

لقد شكل الأمويون خطراً حقيقياً على الإسلام سبب لعلي (عليه السلام) قلقاً فكرياً، باستخدامهم الأساليب الملتوية للوصول إلى غاياتهم دون مراعاة لأية قيمة دينية، فمعاوية يعقد صفقة بينه وبين عمرو بن العاص حين يجعل مصر ـ التي لم تكن تحت إمرته ـ طعمة لعمرو بن العاص طيلة حياته في سبيل استمالته إلى جانبه ضد علي (عليه السلام)[5]، ثم أنه يعقد صفقة ثانية مثلها مع خالد بن المعمر[6] قائد ميمنة علي (عليه السلام) ورأس من رؤوس ربيعة بصفين يجعل فيها خراسان طعمة له فيما لو تراجع عن مسيرته «وقد شارفوا أخذه»[7]، كما كان يستخدم أساليب الكذب والتضليل فيما لو أعيته الحيل من استمالة الرجال، من ذلك ما ادعاه من دخول قيس بن سعد بن عبادة[8]ـ والي مصر من قبل علي (عليه السلام) ـ في طاعته بعد ان يئس من استمالته، مما أدى بعلي (عليه السلام) إلى عزله رغم اخلاصه، وذلك بإلحاح من بعض رجاله الذين انطلت عليهم خدعة معاوية وشكوا في نزاهة سعد وصدقة[9]، وهو ما كان معاوية يرمي إليه من وراء كذبته تلك، كما أنه استغل المال أبشع استغلال لشراء ضمائر ذوي الأطماع، فقد أخذ في مكاتبة وجوه أهل العراق، كالأشعث بن قيس وغيره، والبذل لهم بسخاء في سبيل تخذيل الناس عن علي (عليه السلام)، وبلغ به القول عن بذل الأموال في سبيل ذلك «والله لأستميلن بالأموال ثقات علي (عليه السلام) ولأقسمن فيهم المال حتى تغلب دنياي على آخرته»[10]. لكن كل تلك الأساليب الملتوية التي اتبعها الأمويون بقيادة معاوية لم تكن  لتخفى على علي (عليه السلام)، ولا على أولي العزم من أصحابه الذين عاشروا الأمويين وخبروا نواياهم، فكان قول عمار بن ياسر «والله ما طلبتهم بدمه ـ أي دم عثمان ـ ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمروءها وعلموا ان الحق ان لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم»[11] انعكاساً لفكر علي (عليه السلام) تجاه الأمويين، بحيث اعتبرهم فتنة لابد من استئصالها من جذورها، أو على الأقل تبصير المسلمين بمدى خطورتها لأنها «فتنة عمياء، مظلمة عمت خطتها، وخصت بليتها وأصاب البلاء من أبصر فيها وأخطأ البلاء من عمي عنها»[12].
لقد بذل الأمويون كل ما في وسعهم من جهد لزحزحة علي (عليه السلام) عن موقفه الفكري تجاههم، فلم يتمكنوا من تغيير سياسته تجاههم، قيد أنملة، فاستمرت مقاومته، لا تجاههم المادي بكل ضراوة سواء أكان ذلك باللسان أم بالسيف، فلما احسوا بعدم قدرتهم على مقاومته وان نهايتهم قد قربت في صفين، لجأوا إلى حيلة رفع المصاحف[13]، كورقة يدرأون بها الهلاك عن أنفسهم، مما فتح لعلي (عليه السلام) جبهة معارضة ثالثة، تولدت هذه المرة من بين أصحابه الذين حارب بهم أصحاب الجمل، والأمويين في صفين، فاضطر غير راغب إلى مواجهة تلك المعارضة التي أطلق على رجالها: لقب المارقين)[14].

الهوامش:
[1] قول على (عليه السلام) «وقد بلغني ان الرجل منهم يدخل على المرأة المسلمة والاخرى المعاهدة... الخطبة» خطب 27. هو من الصور البشعة التي كان جنود معاوية يمارسونها أثناء غارتهم على أطراف بلاد الإسلام في خلافته.
[2] يمكن استنتاج ذلك من رسالة رقم 17 وهي رد على رسالة من معاوية.
[3] راجع الخطب:43، 51، 55، 74، 76، 82، 85، 91، 95، 99، 103، 105، 136، 156، 160، 162، 164، 168، 178، 198، 236، والرسائل: 6، 9، 10، 15، 16، 27، 31، 32، 36، 43، 53، 57، 63، 69، والحكم: 120، 464، مع ملاحظة أنه تارة يعبر عن ذلك ببني أمية، وتارة أخرى بأهل الشام وثالثة بمعاوية ويقصد من ذلك الأمويين على ما نعتقد.
[4] راجع قول علي (عليه السلام) في ذلك عند: البلاذري، أنساب الأشراف: 2/103.
[5] راجع الإمامة والسياسية 1/97.
[6] خالد بن المعمر الدوسي، كان رئيس بكر بن وائل في عهد عمر، وكان خالد مع علي (عليه السلام) يوم الجمل وصفين م امرائه، وعلى ما يبدو لم يكن مخلصاً لعلي (عليه السلام) بدلالة قوله الشاعر لمعاوية (طويل) وقائله مجهول:

معاوي أمر خالد بن معمر                       فإنك لولا خالد لم تؤمرِ

وقد أمّره معاوية على أرمينية فوصل إلى نصبين فمات بها ـ ابن حجر ـ الإصابة 1/461.
[7] ابن أبي الحديد 5/228.
[8] قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي من فضلاء الصحابة، وهو من ذوي الرأي والمكيدة في الحرب، مع النجدة والشجاعة، وكان من النبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، مما يلي من أموره، صحب علياً (عليه السلام) لما بويع له بالخلافة، واستعمله على مصر، فكايده معاوية فلم يظفر منه بشيء، فكايد علياً (عليه السلام) وأظهر أن قيساً قد صار معه يطلب بدم عثمان، فبلغ الخبر علياً (عليه السلام)، فلم يزل به محمد بن أبي بكر وغيره حتى عزله، صار مع الحسن بعد مقتل علي (عليه السلام) توفي سنة تسع وخمسين ـ أسد الغابة 4/424.
[9] راجع البلاذري ـ أنساب الأشراف 2/288، ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/138.
[10] ابن مزاحم ـ صفين ص 319 وص 436.
[11] السابق.
[12] خطب ـ 92.
[13] راجع ذلك مفصلا عند نصر بن مزاحم ـ صفين ص 478 وما بعدها وتاريخ الطبري 5/48 وما بعدها، وكامل ابن الأثير3/160.
[14] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 270-273.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2871 Seconds