بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة وفيها يصف زمانه بالجور ويقسم الناس فيه خمسة أصناف ثم يزهد في الدنيا. يقول عليه السلام:
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي (دَهْرٍ عَنُودٍ وزَمَنٍ كَنُودٍ)[1] يُعَدُّ فِيه الْمُحْسِنُ مُسِيئاً ...إلى أن يقول عليه السلام في أصناف المسيئين: والنَّاسُ[2] عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ:
مِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْنَعُه الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ، إِلَّا مَهَانَةُ نَفْسِه وكَلَالَةُ حَدِّه، ونَضِيضُ وَفْرِه.
ومِنْهُمْ الْمُصْلِتُ لِسَيْفِه[3] والْمُعْلِنُ بِشَرِّه ، والْمُجْلِبُ بِخَيْلِه ورَجِلِه، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَه وأَوْبَقَ دِينَه، لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُه أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُه ، أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُه، ولَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً ،ومِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّه عِوَضاً!
ومِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، ولَا يَطْلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِه، وقَارَبَ مِنْ خَطْوِه وشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِه ، وزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِه لِلأَمَانَةِ، واتَّخَذَ سِتْرَ اللَّه ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ[4].
شرح الألفاظ الغريبة:
عَنُودٍ: جائر؛ وكَنُودٍ: كفور؛ والُمصْلِتُ لِسَيْفِهِ: الماضي في الأمور بقوّته؛ والُجْلِبُ: المستعين على الأمر بالجمع؛ والرجل: جمع راجل، وطَامَنَ من شخصِهِ: أي خَفض، والاسم الطمأنينة؛ أشرط نفسه: هيأها وأعدها للشرِّ والفساد في الأرض؛ أَوْبَقَ دِينَهُ: أهلكه؛ والحطام: المال، وأصله ما تكسر من اليبس؛ يَنْتَهِزُهُ: يغتنمه أو يختلسه؛ المِقْنَب: طائفة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين؛ فَرَعَ المنبر: - بالفاء - علاه[5].
شرح ابن ميثم البحراني:
قال الشريف: أقول: هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، وهي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا شك فيه، وأين الذهب من الرغام، والعذب من الأجاج؟ وقد دل على ذلك الدليل الخريت، ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ؛ فإنّه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان والتبيين، وذكر من نسبها إلى معاوية، ثمّ قال: هي بكلام علي عليه السلام أشبه وبمذهبه – في تصنيف الناس، وبالإخبار عمّا هم عليه من القهر والاذلال ومن التقية والخوف – أليقُ.
قال: ومتى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهّاد، ومذاهب العبّاد؟!
قوله: ((فالناس على أربعة أصناف..)).
أقول: وجه هذه القسمة أنّ الناس: أمّا مريدون للدنيا، أو لله.
والمريدون لها فإمّا قادرون عليها، أو غير قادرين؛ وغير القادرين: إمّا محتالين لها، أو محتالون؛ إمّا أن يؤهّلوا نفوسهم للإمرة والملك، أو لما هو دون ذلك، فهذه الأقسام خمسة مطابقة لما ذكره عليه السلام من الأوصاف الأربعة الذين عرضهم مع الصنف الخامس الذين أفردهم بالمدح.
فالصنف الأوّل: - فهم المريدون للدنيا القادرون عليها: المشار إليه في القسم الثاني من قسمته بقوله: ((ومنهم المصلت لسيفه، والمعلن بشرّه) ..، إلى قوله: ((يفرعه))، والمقصود بهذا الصنف القادرون على الدنيا المطلقون لعنان الشهوة والغضب في تحصيل ما يتخيل كمالاً من القينات الدنيوية.
فإصلات السيف كناية عن التغلب، وتناول ما أمكن تناوله بالغلبة والقهر.
وإعلان الشرّ: والمجاهرة بالظلم وغيره من رذائل الأخلاق.
والإجلاب بالخيل والرجل: كناية عن جمع أسباب الظلم والغلبة والاستعلاء على الغير.
واشرط نفسه: تأهيليها وإعدادها للفساد في الأرض؛ وظاهر أنّ من كان كذلك فقد أوبق دينه وأفسده.. .
وقوله: ((ولبئس المتجر)) إلى آخره:
تنبيه لهذا الصنف من الناس على خسرانهم في أفعالهم الشبيهة بالتجارة الخاسرة، فإنّ طالب الدنيا المحصل لها – كيف ما اتفق – هالك في الآخرة، فهو كالبايع لها بما حصل له من دنيا ، والمعتاض بما له عند الله من الأجر الجزيل لو أطاعه حطاماً تفنى عينه وتبقى تبعته ولذلك استعار لفظ التجارة لها.
الصنف الثاني: - وهم المريدون لها غير القادرين عليها وغير المحتالين لها - : وهو المشار إليه بقوله: ((منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلاّ مهانة نفسه و كلالة حدّه ونضيض وفره)).
وكنّى بقوله: كلالة حدّه، عن عدم صراحته في الأمور وضعفه عنها، وظاهر أنّ المريد للدنيا -: المعرض عن الله – لو خلى عن الموانع المذكورة ووجد الدنيا لم يكن سعيه فيها إلاّ فساداً.
الصنف الثالث: - الغير القادرين على الدنيا مع احتيالهم لها وإعداد أنفسهم لأمور دون الملك - : وهو المشار إليه بقوله: ((ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا)) إلى آخره:
وقوله: ((يطلب الدنيا بعمل الآخرة)): إشارة إلى الحيلة للدنيا، كالرياء والسمعة.
وقوله: ((ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا)): إشارة إلى أنه ميريد للدنيا فقط.
وقوله: قد طامن من شخصه)) إلى آخره:
تفصيل لكيفية الحيلة، فإنّ خضوع الإنسان وتطامن شخصه والمقاربة بين خطوه، وتشمير ثوبه، وزخرفته لنفسه بما هو شعار الصالحين من عباد الله، وستر الله الذي حمى به أهل التقوى أن يردوا موارد الهلكة يقع من صنف من الناس؛ التماساً لدخولهم في عيون أهل الدنيا، وأرباب أهل القينات؛ ليسكنوا إليهم في الأمانات ونحوها، ويجعلون ذلك ذريعة لهم إلى ما أملوه من الدنيا الفانية فيكونون قد اتخذوا ستر الله وظاهر دينه وسيلة إلى معصيته[6]) ([7]).
الهوامش:
[1] ما بين القوسين في نهج البلاغة تحقيق الشيخ العطار: دهر عنود وزمن شديد.
[2] في نهج الشيخ العطار وابن ميثم: فالناس.
[3] في نهج الشيخ العطار: بسيفه.
[4] نهج البلاغة لصبحي صالح: 74- 75/ خطبة رقم 32، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 91-93/ خطبة 32، نهج البلاغة لابن ميثم 2: 62/ خطبة رقم 31، نهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 85- 87.
[5] شرح الألفاظ الغربية: 576.
[6] شرح النهج لابن ميثم البحراني 2: 63- 68/ شرح الخطبة رقم 31.
([7]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 22-26.