يقلم السيد نبيل الحسني
إنَّ منّ التأويلات للآية المباركة في {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} هو: العلم، فقد قال الجصاص وغيره -كما مرَّ بيانه سابقاً-، بعد أن اَستند إلى قول ابن عباس في وراثة يحيى (عليه السلام) النبوة من آل يعقوب: (فقد أجاز -أي: ابن عباس- إطلاق أسم الميراث على النبوة، فكذلك يجوز أن يعني بقوله: {يَرِثُنِي}، أي: يرث علمي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
«العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهما، وإنّما ورثوا العلم»؛ وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«كونوا على مشاعركم -يعني بعرفات- فإنكم على إرث من إرث إبراهيم».
أقول:
1- إنَّ من الغرائب في هذا القول، هو الالتفاف على دلائل الألفاظ والمفردات ومعانيها، وذلك أن الجصاص وغيره يدركون إنّ مقاصد القرآن وأحكامه في الإرث هو انتقال الملكية، ولذا: نجد الجصاص يلقي بآثام هذه المخالفة الصريحة لحكم الشريعة في الإرث على عاتق عبد الله بن عباس، فيقول:
(فقد أجاز إطلاق اسم الميراث على النبوة، فكذلك يجوز أن يعني بقوله:
{يَرِثُنِي} يرث علمي)!!
في حين أن ابن عباس فهم أن الإرث يعني انتقال الملكية، وأن دلالة اللفظ في: {يَرِثُنِي}، هي: انتقال أمواله الى ولده يحيى (عليه السلام)؛ أما دلالة اللفظ في {وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} فقد فهمها ابن عباس بمعنيين، الأول: هو الإرث بمعناه الشرعي في الفرائض، أي انتقال الملكية في أموال آل يعقوب إليه، وعليه: يكون زكريا (عليه السلام) قد ورث أموال آل يعقوب، وأن هذه الأموال ستذهب الى أبناء عمومته إن لم يهب الله له ولداً يليه في أمواله.
وأما المعنى الثاني: فهو المعنى المجازي في انتقال النبوة، وهو انتقال غير حقيقي، والعلة فيه أن النبوة ليست ملكية خاصة تزول بزوال الحي من الحياة وموته وانتقالها الى الورثة، فلو كانت بهذا المعنى لكان أبناء نبي الله يعقوب (عليه السلام) الذين ألقوا بأخيهم يوسف (عليه السلام) في البئر كلهم أنبياء عند موت يعقوب شاؤوا أم أبوا.
والسؤال المفروض: كيف يكون حال الشريعة والأنبياء في أولادهم منهم من يجتمع على قتل أخيه ويتسبب في أذى والده وأخيه، كما هو الحال في أبناء نبي الله يعقوب، وولده يوسف (عليهما السلام).
فـــ {ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟!
وعليه:
فإن القول بجواز (أن يعني بقوله: {يَرِثُنِي}، يرث علمي، هو في مخيلة من لا يفقه من القرآن شيئًا!!
2 ـ إنَّ الاستدلال بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«العلماء ورثة الأنبياء» والذي أخرجه الفريقان، أي: أهل القرآن والعترة النبوية (عليهم السلام)، وأهل السُنَّة والجماعة، فهو محمول على تفضيل العلماء وطلب العلم والعمل به، وقد أخرجه الفقهاء والحفاظ في هذه الأبواب من السنن، وهي على النحو الآتي:
أ ـ أخرج ابن فرّوخ الصفار (ت 290هـ) (رحمه الله) عن أبي البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
«إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورِّثوا درهما ولا دينار، وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ شيئاً منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»[1].
وقد أورده الصفار (رحمه الله) في باب: أن العلماء هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أي: أنهم حازوا علوم الأنبياء (عليهم السلام) وما جاءت به، وهو كاشف عن تكذيب من أدعى أن خلافة النبوة في غيرهم، بل: هم أهل الذكر المخصوصون بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء/7].
وأخرجه الكليني (ت 329هـ) بهذا السند واللفظ في باب: صفة العلم وفضله وفضل العلماء[2].
ب ـ واَخرج الشيخ الصدوق (رحمه الله) في باب: (ثواب طالب العلم)، بسنده الى الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:
«من سلك طريقا يطلب يه علماً سلك الله به طريقاً الى الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضىً به وانه يستغفر لطالب العلم من في السموات ومن في الأرض حتى الحوت في البحر وفضل العالم على العابد كفضل القمر على ساير النجوم ليلة البدر، وان العلماء ورثة الأنبياء، وان الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منهم أخذ بحظ وافر»[3].
ج ـ واَخرج ابن ماجة (ت 273هـ) وأبو داود السجستاني (ت 275هـ)، والترمذي (ت 279هـ) في باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم، وهذا الحديث بلفظ مقارب لما أخرجه الصفار والصدوق (رحمهما الله):
(فعن كثير بن قيس، قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل، فقال: يا أبا الدرداء: أتيتك من المدينة، مدينة رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي [صلى الله عليه وآله وسلم]، قال: فما جاء بك تجارة؟
قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا؛ قال:
فإني سمعت رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] يقول:
«من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً الى الجنة؛ وان الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم.
وان طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وأن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب؛ إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهما، إنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر»[4].
والسؤال المفروض في البحث:
لماذا لم يخرج هؤلاء الحفاظ هذه الأحاديث في أحكام المواريث والفرائض ليعلم الناس إن الإرث هو العلم فلا يتنازعون في الأموال وتقسيمها؛ بل لم يجرؤ أحد منهم على ذكرها في غير موضعها المخصص، أي في طلب العلم والحث عليه والترغيب فيه.
3ـ إنَّ القصدية في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«إنَّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم»، ليس بنفي الإرث فيما بين الأنبياء (عليهم السلام) وإنما عنى به توهين السعي في طلب الدينار والدرهم بقرينة ما سبق هذا اللفظ، ولذلك ابتدأ سؤال أبي الدرداء هذا الرجل: أما جئت لحاجة، أما قدمت لتجارة؟ وما تبعه في بيان فضل العلم والعلماء، وتشبيههم بالقمر بين النجوم؛ بل أن وحدة السياق ودلالة الألفاظ في الحديث تدفع الشبهة في نفي الإرث عن الأنبياء فيما يملكون من أموال سواء: كانت نقدية أو أراض أو دواب أو سلاح أو مقتنيات شخصية وهو ما كان لرسو ل الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره من الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام).
وعليه:
فإن القصدية في قوله (صلى الله عليه وآله) «إنّ العلماء ورثة الأنبياء»: أنهم نقلوا إليهم علومهم، وذلك إن المال هو حق خصصه الله تعالى للأولاد والزوجة في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وهو خارج تخصص العلماء من أمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فهم أجانب عليه وغرباء عنه؛ ومن ثمَّ فالأصل منتفي فيما بين الأنبياء والعلماء في انتقال الأموال بالإرث، فهو حق الرحم والصلب.
4 ـ لقد نص القرآن الكريم على نفي أن يكون التوارث فيما بين الأنبياء (عليهم السلام) بالعلم دون المال بأنواعه، وذلك عِبْرَ عدة آيات صريحة في بيان أن العلم عند الأنبياء (عليهم السلام) هو هبة من الله وهو لدني وغيره اكتسابي وهم يتفاوتون فيما بينهم بهذا الفضل والنعمة الإلهية، ومن ثم فهو محصور فيما يختاره الله عز وجل، وإنه لا ينتقل إليهم بالوراثة وإلا لأصبح اللاحق منهم أكمل من السابق في العلم.
وعليه:
فإن علمهم ينتقل إليهم عن الله عز وجل فقد يحجب ما عَلِمَه نوح عن إبراهيم، أو ما علمه إبراهيم عن موسى، وما علمه موسى عن عيسى (عليه السلام)؛ وقد يهب الله عز وجل لأحدهم ما لا يهب لغيره كما وهب لحبيبه من العلم ما لا يهبه لغيره.
بل: يعرض القرآن إن الله عز وجل علَّم نبيه الخضر ما لم يعلمه لرسوله وكليمه موسى (عليه السلام)، قال تعالى:
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [سورة الكهف/65].
وسؤال موسى الكليم (عليه السلام) للخضر (عليه السلام): {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [سورة الكهف/66]، فلو كان العلم بالتوارث، فلأيّ علّة يخرج نبي الله موسى (عليه السلام) وهو من المرسلين، وأحد أُولوا العزم باحثًا عن الخضر كي يعلّمه ممّا علَّمه الله تعالى؟
ولذا: نجد أن الله تعالى يأمر حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعاء لطلب الزيادة في العلم، فقال سبحانه:
{فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقرآن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [سورة طه/114].
بل: لقد قطع القرآن الطريق على المتأولين لكتاب الله تعالى في قولهم بأن الإرث في قوله {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} وقوله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل/16] هو: العلم، وذلك أن الله عز وجل قد ساوى فيما بين داود وولده سليمان في العلم، ومن ثم فقد انتفت الحاجة في الاستزادة والسعة في العلم، قال عز وجل: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [سورة النمل/15-16].
وعليه:
فإن القول في تأويل الإرث بين الأنبياء (عليهم السلام) بالعلم يعارضه القرآن والسُنَّة.
5- أما استدلال الجصاص بحديث أبي بكر وعمر وغيرهما من أهل الشورى في مجلس عمر بن الخطاب ومناشدته لهم بهذا الحديث، فهو لا يصلح للمبنى الحكم لسقمه وكثرة علله، فكيف يصلح للاحتجاج؟!! وسيتم البحث فيه في الفصل القادم والموسوم بـ (معارضة حديث «لا نورِّث» للسُنّة) إن شاء الله تعالى[5] .
الهوامش:
[1] بصائر الدرجات: ص 30.
[2] الكافي: ج1 ص 32.
[3] ثواب الاعمال: ص 131.
[4] سنن ابن ماجة: ج1 ص 81؛ سنن أبي داود: ج2 ص175؛ سنن الترمذي: ج4 ص153.
[5] [5] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معرضة حديث لا نورث للقرآن والسنة واللغة ، السيد نبيل الحسني : ص88 – 97، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة / العتبة الحسينية المقدسة ، ط1 لعام 2022م