بقلم: السيد نبيل الحسني.
سلك ابن عربي مسلك أسلافه في جعل حديث (لا نورِّث) هو الأصل، ولذا قال في بيان معنى قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}
(فيها مسألتان:
المسألة الأولى: قد بيّنا فيما سلف أنّ النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة)، وقال:
(إنَّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهما وإنما ورثوا علما) والأول أصح.
فإن قيل: فما معنى قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}؟!
قلنا: وهي المسألة الثانية: أراد بالإرث هاهنا نزوله منزلته في النبوة والملك، وكان لداود تسعة عشرة ولداً ذكراً وأُنثى فخصّ سليمان بالذكر، ولو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد، فخصه بما كان لداود وزاده فضله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده)[1].
أقول:
1 ـ لا يمكن للباطل أن يكون هو الحاكم في شريعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن حيك بأوجه متعددة، ومن ثم لم يكن قول ابن عربي بالمغاير لما تكبل به أعلام أهل السُنَّة والجماعة بالأنساق الثقافية والعقدية لسُنَّة الشيخين.
2 ـ أما قوله: (إنّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهما) قد مرّ بيان فساده ومعارضته للقرآن والسُنَّة النبوية في المسألة الأولى من المبحث في مناقشة أقوال الجصّاص (ت 370هـ) وتأويلاته ضمن الفقرة ثالثًا.
3 ـ إنّ ابن عربي قد تراجع عن وراثة المال بين الأنبياء (عليهم السلام)، ولذا: قال: (وإنما ورَّثوا علماً، والأول أصح) أي: أنهم تركوا مالاً لكنه صدقة بعلة حديث (نحن معاشر الأنبياء)؛ بمعنى أدق: الاحتكام الى سُنّة أبي بكر في محاربته لبضعة النبوة ومصادرة حقوقها جميعاً حتى توفيت وهي صابرة محتسبة شهيدة لما نزل بها من أنواع الأذى[2].
4 ـ إنَّ من المضحك المبكي أن يكون ابن عربي على دراية بعدد أولاد نبي الله داود (عليه السلام)، فقال:
(وكان لداود تسعة عشر ولداً ذكر وأنثى)!! وغفل عن أن أعلام أهل السُنَّة والجماعة لم يتمكنوا من معرفة أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد اختلف المؤرخون فيما أنجبت أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) من الذكور والإناث له (صلى الله عليه وآله وسلم).
فبعضهم قال: إنها أنجبت (أحد عشر نفراً) سبعة من الذكور وأربعاً من الإناث([3]).
وبعضهم قال: أربعة من الذكور وأربعاً من الإناث([4]).
وبعضٌ قال: أنجبت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة ذكـور وأربع إناث([5]).
والقسـم الآخر قال: أنجبـت غلاميـن وأربع بنات، وهو الأكثر شهرة([6]).
والمتأمل في هذه الروايات يجد ما يلي:
1. اَختلف المؤرخون في عدد الذكور([7]) ولم يختلفوا في عدد الإناث، وهذا يدعو للاستغراب!
2. اَختلفوا في زمن ولادة الإناث! حتى أن كثيراً منهم لم يُشر إلى زمن ولادة أي بنت من بنات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل محدد.
3. اَختلفوا في الكبرى والصغرى من بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أياً تكون([8]).
وعليه:
كان حريًا بابن عربي وغيره معرفة سيرة نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس الاحتكام الى سُنَّة الشيخين وتضافره مع أسلافه ومن أخذ عنهم على هضم بضعة نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيختلق لداود (عليه السلام) تسعة عشر ولداً وأنثى، كي يمرر تخصيص النبوة في الآية المباركة، وأنها هي المعنية بلفظ (الإرث) وليس المال، فأوقع نفسه بمحذور شرعي، وهي جعل النبوة بالوراثة وليس بالجعل الإلهي كما مرّ بيانه من الآيات المباركة في ذلك ضمن المسألة الأولى في مناقشة أقوال الجصاص في الفقرة ثانيًا، فلتُراجَع.
والسؤال الأهم: لو سلمنا أنّ داود (عليه السلام) كان له تسعه عشر ولداً ذكراً، فهذا يلزم أنهم ورثوا النبوة من أبيهم حالهم في ذاك حال أخيهم سليمان؟! {فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}.
وذلك أن نفي الإرث في الآية على المال وأنه في النبوّة، هو حجة على ابن عربي وليست له، إذ يقتضي ذلك وراثة أبناء داود كلهم للنبوّة، فهي على هذا المبنى تجري بالإرث وليس بالجعل الإلهي والتعيين بالنص، وهذا خلاف القرآن والسنّة النبويّة ومعارض لهما ومبطل لتأويل الإرث في الآية المباركة على أنه النبوّة؛ ومن ثم فإن الإرث في الآية هو المال حصراً.
إذن: الإرث في قوله تعالى {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} هو أمواله، وأما غيره من الأقوال فهو انتصار لما سَنّه أبو بكر وعمر وغيرهما في ظلم بضعة النبوة (عليها السلام) وظلم شريعة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) [9] ؟!
الهوامش:
[1] أحكام القرآن: ج3 ص 471.
[2] لمزيد من الأطلاع، ينظر: هذه فاطمة (عليها السلام): الجزء السابع؛ فاطمة (عليها السلام) في نهج البلاغة مقاربة تداولية بين مقاصدية النص ومقبوليته؛ ما أنكره أعلام أهل السُنَّة والجماعة فيما شجر بين أبي بكر وفاطمة (عليها السلام) طُعمة حصن الكتيبة أنموذجًا، وجميعها للمؤلف.
([3]) تاريخ الخميس: ج1، ص272؛ الذخائر العقبى: ص152.
([4]) صفوة الصفوة: ج1، ص69؛ تاريخ الخميس: ج1، ص272؛ ذخائر العقبى: ص152.
([5]) السيّر والمغازي لابن إسحاق: ص82؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص65، حديث 41؛ سيرة ابن هشام: ج1، ص202؛ السيرة النبوية لابن جرير الطبري: ص39؛ جوامع السيرة النبوية لابن حزم الأندلسي: ص35؛ سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السيرة النبوية: ج1، ص63؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص43؛ إعانة الطالبين، البكري الدمياطي: ج1، ص35.
([6]) دلائل النبوة للبيهقي: ج2، ص70؛ وفي المعجم الكبير للطبراني: ج22، ص397؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص66، حديث 45؛ الروض الأُنف للسهيلي: ج1، ص214؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج9، ص349، حديث 15243.
([7]) صفة الصفوة: ج1، ص69؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ص272؛ السيرة الحلبية: ج3، ص391؛ عيون الأثر: ج2، ص363؛ ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: ص152.
([8]) السيّر والمغازي لأبن إسحاق: ص82، وقد قال: إنّ الكبرى هي زينب؛ الذرية الطاهرة للدولابي، وقد جعل الصغرى (أم كلثوم) والكبرى (رقية) حديث (44ــ47)، سيرة ابن هشام جعل الكبرى (رقية): ج1، ص202؛ الروض الانف للسهيلي: ج1، ص215، وجاء فيه: أن الكبرى هي: (زينب)؛ وفي سيرة ابن جرير الطبري جعل الصغرى: (فاطمة عليها السلام)؛ المعجم الكبير للطبراني: ج22.
[9] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معارضة حديث لا نورث للقران والسنة واللغة ، السيد نبيل الحسني ،ص149/153 إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة التابعة للعتبة الحسينية المقدسة ، ط1 / دار الوارث كربلاء المقدسة - العراق لسنة 2021م