بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
جاء هذا اللفظ في عشرة مواضع من النَّهْج ليدل على نوعين
1) القرض الحقيقي (المادي): ويعني دفع المال، وقد ورد في كلام الإمام (عليه السلام) في مواضع عدة منها وروده على صيغة (استَفْعَل) الدّالة على الطلب، متصلاً بالمخاطِب في كتابه إلى ولده الحسن (عليهما السلام): « وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ في يَوْمِ عُسْرَتِكَ»[1]، فيأخذ منك الفقير في الدنيا ماأنت في غنى عنه، ويجعله الله يوم القيامة أضعافا وأنت في أشدّ الحاجة إلى بعضه[2].
وجاء في خطبة له في الوصية بالتقوى: «فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيم}، فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ، وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ، اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحُكِيمُ، وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»[3].
والملاحظ أنَّ كلَّ فاصلة أتت في موضعها المناسب، فالإمام هنا ختم قوله بـ(العزيز الحكيم) فـ(العزيز: الذي لايُغْلَب) وأعقبه بـ(الحكيم): الذي يُدَّبر الأمر بحكمته، ثم أعقبه بفاصلة (الغَنِي الحَمَيد) فهو ليس بحاجةٍ إلى أن يستقرضكم ؛ ففي الأولى نصر وجنود، وفي الثانية مُلْكٌ وغِنَى.
2) القرض المجازي: وجاء القَرْض دالاً على المعاني المجازية، إذ ورد على صيغة الفعل الماضي مسندا إلى واو الجماعة مرة واحدة وذلك في ندائه نوف البكالي: « قال: يَا نَوْفُ، طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبِينَ فِي الاْخِرَةِ، أُولئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الاْرْضَ بِسَاطاً، وَتُرَابَهَا فِرَاشاً، وَمَاءَهَا طِيباً، وَالْقُرْآنَ شِعَاراً، وَالدُّعَاءَ دِثَاراً، ثُمَّ قَرَضوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ»[4].
فالفرق بين القَـَرْضِ والخَضْمِ، أنَّ القرضَ أكل بأطراف الأسنان، والخَضْم: أكل بالفَم كلَّه فالزَّاهدين أخذوا من الدَّنيا قوت من لايموت. وسُمِّي الإنفاق قَرضَا ؛ للتلطف في الدعاء وتأكيدا للجزاء عليه، فإنَّ القرضَ يُوجِب الجَّزاء [5].
ووردت هذه اللفظة مرة واحدة وذلك في بيان خلقة الجرادة: « وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ» [6].
و(المنجلين) رجلا الجَرادة ؛ لإعوجاجهما، وضربَ المَثَلبهِا؛ لأنَّها تُحَيِّر الألباب بسمِعِها، وبصَرِها، وفمِها، ونابيها، ورجِليها، وإلهامها، يخافها الزارعون على زرعهم، ولو اجتمعوا وتألبوا بجمعهم لايستطيعون ردعها، فتوجهَتْ بزحفِها الى بقعةٍ وهجمتْ على الحقول دمرتها، فلا يستطيع أحد دفعها، مع أنَّ حجمَها لايَبلغُ الإصبعُ[7].
وصف الإمام (عليه السلام) لهذه الحَشَرَة ماتلحقه من أضرار جسيمة سيئة وآفات، وتُشَكِل خَطَرا اقتصاديا سيئا فهي تخيفُ كلِّ الفلاحين، تخرج جيش جرار يكتسح في طريقه مايصادفه من أخضر ويابس فتؤدي إلى كوارثٍ عظيمةٍ بكافة المزروعات وبالأخصِّ مزارع الحنطة والشعير، وقد قدَّر العلماء ماتحدثه في الولايات المتحدة وحدها من أضرارٍ مبلغ (250) مليون دولار سنوياً[8].
قال ابن فارس: « القاف والراء والضاد أصل صحيح، وهو يدلُّ على القَطْعِ يُقَـال: قرضت الشَّيءَ بالمِقْـرَاضِ. والقـَـرْض: ماتعطيه الإنسان من مالكٍ لتقضاه، وكأنه شَيءٌ قد قطَّعْته من مالكَ. والِقراض في التجارة ِ، هو من هذا، وكأنَّ صاحبَ المالِ قد قطَعَ من مالهِ طائفة وأعطاها مقارضة ليُتْجَر فيها»[9]
قال تعالى: { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا }[10].
ويطلق على الجزء المقطوع من المَّال بالإعطاء، على أن يُرَد بعينه، أو برد مثله بدلاً منه والقَـرْض: ماتعطيه غيرك من المال لتقضاه، والجمع قـُرُوُض، وهو إسم من أقرضته المال إقراضاً، واسْتَقرَضَ طلب القَرْض، واقْـتـَرضَ أخذه. والقـَرض: دفعُ المالِ للغيرِ[11].
إن الإسلام بفرضه مبدأ القرض بين المسلمين أوجد أرضية صالحة للإستثمار، وبالأخص ممن لايمتلكون من الأموال المقدار الذي يستثمرونه، وسيؤدي زيادة القدرة الشرائية لطبقة الفقراء ويحسن الحالة الاقتصادية.)[12].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة: ك 31، 269.
[2] ظ: في ظلال نهج البلاغة: 5 / 216.
[3] نهج البلاغة: ك 31، 269.
[4] الحكم القصار: 104، 367.
[5] ظ: منهاج البراعة: 6 / 230.
[6] نهج البلاغة: خ 185، 196.
[7] ظ: الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة: 14.
[8] ظ: المصدر نفسه.
[9] مقاييس اللغة: 5 / 72.
[10] الكهف / 17.
[11] ظ: المعجم الاقتصادي الاسلامي: 356.
[12]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 134-138.