بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
«كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرون بأنفسهم» القضاء ، ويرجع ذلك إلى الأهمية التي أولاها الإسلام له، وأسوة بالنبي صلى الله عليه وآله الذي كان يقضي بين المسلمين في المدينة بنفسه، ويرسل من يتوخى فيهم العلم والدراية والإنصاف من صحابته للقضاء بين الناس في الولايات البعيدة، ومن أولئك الذين اعتمد عليهم صلى الله عليه وآله في القضاء «علي بن أبي طالب عليه السلام وهو من أجل القضاة»[1]. وقد اهتم علي عليه السلام بالقضاء في دولته لسبيين:
ـ الأول: مكانة القضاء كمنصب ديني يهم الناس كافة، بالفصل في الخصومات، وأخذ الحق للمظلوم وردع الظالم، وإقامة الحدود بما يتطابق واحكام القرآن والسنة.
ـ الثاني: مباشرته القضاء بنفسه على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وعهد الحكام الثلاث من بعده. وتمرسه في ذلك جعله على دراية تامة بخبايا تلك الوظيفة الحساسة، وما تحتاجه من علم وخبرة، وسعة اطلاع في طبائع البشر، لمعرفة ألاعيب المحتالين، إلى غير ذلك من أمور يحتاجها القاضي في أثناء مزاولته القضاء، فمن خلال تجربته في مباشرة ذلك المنصب يقول علي عليه السلام «لو يعلم الناس ما في القضاء، ما قضوا في ثمن بعرة، ولكن لا بد للناس من القضاء»[2]، لذلك يرى علي عليه السلام: أن على القاضي ان يتحرى الحق وان يحكم بالعدل دون أي التباس، لأن القاضي الجائر والقاضي المخطئ ـ وان كانت نيته العدل ـ كلاهما في النار من وجهة نظر علي عليه السلام[3].
ويبدو ان الاغراءات المادية والسعي وراء الشهرة في صدر الإسلام أدى بكثير من الناس إلى الجري وراء ذلك المنصب، مما جعل علي عليه السلام يحمل حملة شعواء على مثل أولئك المتطفلين على الوظيفة، وقد ورد ذلك في نصين في النهج:
ـ الأول منهما يبين خطورة القاضي الجاهل بعلم القضاء، وما ينجر عن جهله من كوارث على الناس، جاء في خاتمته «جاهل خباط جهالات، عاش ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع... لا يحسب العلم في شيء مما انكره، ولا من وراء ما بلغ مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أم أكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث»[4].
ـ اما النص الثاني فيتمثل في اختلاف الفتيا بين القضاة في قضية واحدة بعينها بحيث يحكم فيها كل قاض بخلاف حكم الآخر، ثم يجتمعون عند من «استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد، وكتابهم واحد. أفأمرهم الله ـ سبحانه ـ بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه»[5].
لذلك وضع شروطاً شاملة ودقيقة فيمن يصلح لتولي ذلك المنصب المهم وهي:
1ـ شروط أخلاقية.
2ـ شروط ثقافية.
3ـ شروط نفسية)[6].
الهوامش:
[1] مقدمة ابن خلدون ص 375.
[2] وكيع: اخبار القضاة 1/5، 21.
[3] راجع السابق 18.
[4] خطب 17، فقرة 2. تعج: يرتفع صوتها مولولة، ويقول محمد عبده أن «صراخ الدماء وعج المواريث، تمثيل لحدة الظلم، وشدة الجور»راجع نهج البلاغة ـ بشرح محمد عبده ص 61 ـ الأندلس.
[5] خطب 18، الفقرة الأولى.
[6] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 328-330.