بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
تكرر هذا اللفظ في نهج البلاغة في عشرة مواضع، والفرق بين الخِرْجِ والخَرَاج هو أنَّ الخَرْجَ: ما تبرعت به، أمَّا الخَراج: ما لزمك أداؤه، قال بعضهم: الخرج من (الرؤوس) والخَراج من الأرض، وهذا يعني أنَّ الخَرجَ مبلغ غير منتظم، وغير متكرر يُدفَع إلى شخص مُعَيَّن مقابل تقديم خدمة عليه. قال تعالى: «قالو ياذا القرنين إنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خَرْجاً» [1]. أمَّا الخَراج فهو مبلغ معلوم يُدفَع بصورة ٍمنتظمة، ومتكررة في نهاية كلِّ حولٍ أو محصولٍ من قبل مستثمري الأرض إلى الدولة[2].
ويُعَدُّ الخراج أحد واردات الدولة الإسلامية وهو» الضَريبة التي كانت تُدفَع لخزينة الدَولة عن الأراضي التي احتلها المسلمون حتى لو أسلم صاحبها. ويَختَلفُ مقدار الخَراج بحسب نوعية الأرض وطريقة ريعها وإستغلالها ونوعية المحصول. وكانت هذه الضَّريبة عادةً تُفرَض على محاصيل الحبوبِ والأشجار المُثمِرة. وكانت تُدفَعُ سَنَويا بعدَ المَوسِم»[3].
استعمله الإمام (عليه السلام) للدَّلالة على (خَراجِ الأرضِ)، قائلاً في كتابه السابق إلى الصحابي الأشتر النَخَعَي (عليهما السلام): «وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ» [4]
فصَّل الإمام (عليه السلام) هنا الناس إلى طبقات: وذكر أرباب الخَراج من المسلمين، وخصً بصرف الخراج الجُنْد والقُضَاة والعُمَّال والكُتَّاب؛ لما يحكمونه من المَعاقد، ويجمعونه من المنافع، ولابدَّ لهم جميعا من التُّجار لأجل البَيْع والشِّراء الذي لاغناء عنه[5].
وقال: «ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ فِي جِهَادِ...... وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاِنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً» [6].
فضَّل باسم التفضيل (أبلغ) عمارة الارض على استجلاب الخراج.
إذ لا حياةَ للدَّولة ولا الجنود أو أية هيئةٍ أو فردٍ إلاَّ بالنفقة الكافية لسدِّ الحاجات، ومن البديهي أنَّه لا موارد للدولة إلاَّ بفرض الضَّرائب وجبايتها وقد أقر الإنكليزي الاقتصادي (آدم سمث) شروطاً أربعة للضِرائب: فتفرض على النَّاس بنسبة قدرتهم على تحملها، وتنطبق على (فريضة الخُمْس والزَّكاة والجِزيَة) في الإسلام وأن تكون معينة، وأن تُجْبَى بدون إزعاج وتُنتَظم بحيث لا تُكلِف الشَّعب إلاَّ الضَروري لخزينة الدَّولة[7].
دعوة الإمام (عليه السلام) للصحابي مالكٍ (رضوان الله عليه) حين ولَّاه إدارة شؤون مصر الإهتمام بأرباب الخراج (وهم المستثمرون الزراعيون)؛ لأن الاراضي التي عليها الخَراج أراضٍ واسعة تتميز بالخصوبة وزراعة المحاصيل المهمة كـ (الحِنطة والشَعير والتَّمر والزَبيب) وسُميت بـ(أرض السَواد) وهي أراضِ العراق، مصر، بلاد الشام، بلاد فارس، وخيبر. إذ يتحقق للدَّولة فيها مورداً كبيراً، لذا أكد الإمام (عليه السلام) أهمية تفقد أمر الخَراج[8].
فالإمام (عليه السلام) يقرأ المستقبل إذ يبصر نهاية الأحداث قبل بدايتها فالنتيجة ستكون خراب البلاد أو صلاحها، وأوصى الإمام (عليه السلام) بعمارة الأرض أكثر من إستجلاب الخراج. وهو عهد من الرَّاعي إلى رعيته فالأمَّة عيال على الخراج، فأعطى للخَراج قيمته، وطريقة صرفه فإن إهتمّ بالأرض وعمارتها تيسَّر الرِّبح، وانتقل هنا من سياق حديثه عن العُمَّال إلى ذكر أرباب الخراج، فقال: تفقد أمرهم، لأنَّ الناس عيال عليهم، وكان يقول: استوصوا بأهل الخَراج؛ فإنَّكم لا تزالون سمانا ماسمنوا. ورُفِعَ إلى انوشروان * أنَّ عامل الأهواز قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة؛ وربما يكون ذلك قد أجحف بالرَّعية، فوقع: يرد هذا المال على من قد استوفي منه؛ فإنَّه تكثير الملك ماله بأموال رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه. وروي: «استحلاب الخراج» بالحاء. ثم قال: «فان شكوا ثقلا» أي: ثقل طسق. وهو شبه الخراج له مقدار معلوم؛ وليس بعربي خالص، ويعني الخراج المضروب عليهم، أو ثقل وطأة العامل وارتفاع نسبة الخراج. قال: «أو عِلة» كإصابة الغلة آفة كالجراد أو البرق أو البرد أو إنقطاع شربٍ: نقص المياه في الأنهار، أو مطرٍأو إحالة الأرض أو اتلفت بالعطش أو بالة، قلة مياه الأمطار، فإنْ لحَقَها ذلك فأمرهم بالتخفيف، وهو بمنزلة التِجَارة التي لابدَّ فيها من إخراج رأس المَّال وإنتظار عوده ورِبْحِهِ [9].
فإن شكوا (ثقلاً): إرتفاعا في نسبة الخراج إلى حجم الإنتاج، أو (عِلَّةً): الأمراض التي تصيب المحاصيل الزراعية، والظروف الجوية والمناخية التي تُمِيتُ المحاصيل، أو إنقطاعاً في المياه المتأتية من الأنهار، أو بالة: نقصاً في مياه السَّقي من الأمطار؛ لقلتها، أو تلفاً في المحاصيل بفعل الأمطار الغزيرة، أو (عطشًا) بسبب الجفاف، فإنَّ نسبةَ الخراج ستقل إلى الحَد الذي يُغَطي التكاليف والخَسائر، فمعظم الجباية إنَّما هي من الفلاحين والتُّجار، فإن إنقبضَ الفلاحون عن الفِلاحة، وقعدَ التُجَّار عن التِجارة ذهبت جملةً، والدَّولة هي السُّوق الأعظم للعالم، ومعظم السَواد، ونفقاتهم أكثرأ مادة للاسواق، وتضاعف الأرباح في المتاجر، فيقل الخراج لذلك، لأنَّ الخراج والجباية في الإعتماد، والمعاملات عائد بالطبع على الدَولة بالنقص ؛ لقِلتِه عند السَّلطان بقلةِ الخَراج[10].
وأوصى الإمام (عليه السلام) العاملين على جباية الخَراج والصَدَّقات بآداب عامة تتضح في قوله: « إنطلقْ الى تقوى اللهِ وحده لا شريكَ له، ولا تروعَنَّ مُسلِماً، ولا تجتازَنَّ عليه كارِهاً، ولا تأخذَنَّ منه أكثر من حقِّ اللهِ في مالهِ، فإذا قدمْتَ على الحَيِّ فانزْل بمائِهم من غير أن تخالطَ أبياتهم، ثم أمضِ إليِّهم بالسَّكينةِ والوقارِ حتى تقومَ بينهم فتسلمْ عليهم، ولات خدجْ بالتحيةِ لهم، ثم تقول، عبادُ الله أرسلني إليكم وليُّ الله وخليفته لآخذَ منكم حقُّ الله في اموالكم، فهل لله في أموالكم حق فتؤدوه الى وليه. فان قال قائل، لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه، فلا تخيفه، او توعده، او تعسفه، أو ترهقه فخذْ ما أعطاك من ذهبٍ أو فضةٍ فاذا كان له ماشية او ابل فلا تدخلها إلا بإذنه»[11] فوصف الإسلام حق الله مافرضه الشرع للمجتمع من ضرائب وهي لبيت المال تُوزع على الرَّعية بالعدل، فخاطب عامله آمرا له بالإنطلاق على بركة الله حتى يحسن في التصرف مع أهل الخَراج، وألاَّ يسيء إليهم بالترويع والتهديد والتخويف، أو بالتسلط عليهم وإكراههم على دفع حقوق الله والإعتداء بأخذ الأكثر من المقرر، ثم ً فصَّل ذلك قائلا: بأن عليه ألاّ يسكن في بيوتهم ؛ بل ينزل في مائِهم (خارج بيوتهم) للسلامة له من أية إشاعة أو قول يُساء إليه، إذ أنَّ السَّكَن بين البيوت يُعَرِّضه إلى التعرف على الأمور والأسرار التي لا يرغب سُكان الحَيِّأن يفشوها الى الغرباء، فذلك مِمَّا يُعَزِّز مكانة المسؤولين (الجُبَاة) ويجعل لهم هيبة في عيون الناس والخليفة، ومثال على ذلك رفض الإمام (عليه السلام) التصَّرف الذي قام به عثمان بنُ حنيف وهو عامله على البصرة ؛ إذ دُعي من قبل أهالي البصرة على وليمة فقبلها، ومما لاشكَ فيه أنَّ هنالكَ أموراً ترتبت على قبول هذه الدَّعوة[12].
فالخَرْجُ والخَراج: « مايخرج من المَّال في السَّنة بقدرٍ معلومٍ»[13].
قال ابن فارس: «الخاء والراء والجيم اصلان، وقد يمكن الجمع بينهما، إلاَّ أنا سلكنا الطريق الواضح. فالاول: النفاذ عن الشيء. والثاني: اختلاف لونين. فأما الأوّل فقولنا خرج يخرج خروجا. والخرَاج بالجسد. والخراج والخَرْج: الإتاوة؛ لأنه مال يخرجه المعطي»[14].
الخَرْج والخَرَاج، واحد عند بعض اللغويين: وهو شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم. قال الزجاج: الخرج المصدر، والرعية تؤدى الخرج الى الولاة، والخَرْج والخراج: الإتاوة: «وهي هديةُ المَلَلِك» وفي علم المالية الحديث:» هي مبلغ من المال يفرض جبرا على مالك العقار بنسبة المنفعة التي عادت إليه من الأعمال العامة التي قامت بها الدولة أو الهيئات المحلية، ولفظ الأتاوة غير مستعمل عند الفقهاء؛ بل المستعمل عندهم: الكلف السلطانية، النوائب، المكوس، المغارم، الضرائب[15].
وفَسَّر ابن الأثير» الخَراج بالضَمَّان» قائلاً: «يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدا كان او امة او ملكا، وذلك أن يشتريه فيستغله زماناً، ثم يعثر منه على عيب قديم لم يطلعْه البائع عليه، او لم يعرفه فله رد العين المبيعة واخذ الثمن؛ ويكون للمشتري ما استغله، لان المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء»[16].
ويجمع على أخراج واخاريج وأخرجة. وفي التنزيل: «{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[17]، قال الزجاج: الخراج الفيء، والخرج الضريبة والجزية، وقريء: ام تسألهم خراجا، قال الفراء: ام تسألهم اجراً على ما جئت به، فأجر ربك وثوابه خير[18]. والخرج أعمُّ من الخَراجو جعل الخَرْج بإزاء الدَّخل. قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[19].
وقيل: العبد يؤدى خرجه أي غلته والرعية تؤدى الى الامير الخراج. وفي الإصطلاح الفقهي: حقوق تؤدى عنها الى بيت المال، ذلك ان الفلاحين الذين يعملون فيها قد اكتروها بغلة معلومة [20].)[21].
الهومش:
[1] الكهف / 94.
[2] ظ: الاسلام والاقتصاد: 50.
[3] المرجع في الحضارة العربية الاسلامية: ابراهيم سلمان وعبد التواب شرف الدين: 128.
[4] نهج البلاغة: ك 53، 324.
[5] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 17 / 56 ـ 57.
[6] نهج البلاغة: ك 53، 324.
[7] ظ: في ظلال نهج البلاغة: 5 / 400 ـ 401.
[8] ظ: السياسة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام): 91.
* أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام وهو ملك كسرى.
[9] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 17 / 56.
[10] ظ: السياسة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام): 101 ـ 104.
[11] نهج البلاغة: ك 60، .339.
[12] ظ: منهاج البراعة: 20 / 310.
[13] العين (مادة خرج): 4 / 158.
[14] مقاييس اللغة: 2 / 175.
[15] معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء: 16.
[16] النهاية في غريب الحديث والأثر: 258.
[17] المؤمنون / 72.
[18] ظ: معاني القرآن: الفراء: 10 / 204.
[19] الكهف / 94.
[20] ظ: المفردات في غريب القران: 193.
[21]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 170-177.