الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) تسمى بالقاصعة ومنها قال (عليه السلام) في طلب العبرة

مقالات وبحوث

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) تسمى بالقاصعة ومنها قال (عليه السلام) في طلب العبرة

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 11-05-2024

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
فَأَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَىٰ أَمِنْ سِنِيِّ الدُّنْيَا أَمْ مِن سِنِيِّ الْآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
 فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟ كَلَّا، مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بِشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكَاً، إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمَى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ([1]).

شرح الألفاظ الغريبة:
أحبط عمله: أضاع عمله؛ الجهد: - بفتح الجيم - الاجتهاد؛ الهوادة: ـ بالفتح - اللين والرخصة([2]).

الشرح:
قوله: «فاعتبروا»: أمر للسامعين باعتبار حال إبليس في الكبر بعد شرح حاله في طاعة الله وطول مدة عبادته له وما لزمه بسبب كبر ساعة واحدة من إحباط عمله ولعنته والبعد عن رحمة الله ليتنبهوا للتخلّي عن هذه الرذيلة؛ وجه الاعتبار أن يقال: إذا كان حال من تكبّر من الملائكة بعد عبادة ستة آلاف سنة كذلك فكيف بالمتكبرين من البشر على قصر مدة عبادتهم وكونهم بشراً؟ فبطريق الأولى أن يكونوا كذلك. وجهده الجهيد»: أي اجتهاده الذي جهده وشق عليه.
وقوله: «وكان قد عبد الله ...» إلى قوله: «الآخرة»: فيشبه أن يكون قد أشار: بسني الآخرة إلى سنين موهومة عن مثل اليوم المشار إليه بقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}([3]) وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ}([4]). وتقريره أنّ الأيام في الآخرة مما لا يمكن حملها على حقائقها لأنّ اليوم المعهود عبارة عن زمان طلوع الشمس إلى مغيبها ، وبعد خراب العالم على ما نطقت به الشريعة لا يبقى ذلك الزمان، وعلى رأي من أثبت بقاء الفلك تكون القيامة عبارة عن مفارقة النفوس لأبدانها أو عن أحوال تعرض لها بعد المفارقة، والمجرّدات المفارقات لا يكون لأحوالها زمان ولا مكان حتى تجري في يوم أو سنة فتعيّن حمل اليوم على مجازه وهو الزمان المقدّر بحسب الوهم القايس لأحوال الآخرة إلى أحوال الدنيا وأيامها إقامة لما بالقوة مقام ما بالفعل. وكذلك السنة.

وهذه الأزمنة هي التي أشار إلى مثلها المتكلّمون بقولهم: إن تقدم الباري تعالى على وجود العالم بتقدير أزمنة لا نهاية لها. إذا عرفت فاعلم أن قوله تعالى: {في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}([5]) وفي وضع { مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ }([6])  إشارة إلى تفاوت تلك الأزمنة الموهومة بشدّة أهوال أحوال أهل الآخرة وضعفها وطولها وقصرها وسرعة حساب بعضهم وخفة ظهره وثقل أوزار قوم آخرين وطول حسابهم كما روي عن ابن عبّاس في قوله: {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة([7])، وأراد أن أهل الموقف لشدّة أهوالهم يستطيلون بقائهم فيها وشدتها عليهم حتى يكون في قوة ذاك المقدار.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم القيامة كان مقداره خمسين ألف سنة: ما أطول هذا اليوم؟ فقال: والذي نفسي بيده إنه ليخفّ على المؤمن حتى يكون عليه أخفّ. صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا([8]). وهذا يدلّ على أنه يوم موهوم وإلا لما تفاوت في الطول والقصر إلى هذه الغاية. إذا ثبت هذا فنقول: يحتمل أن يكون مراده علية السلام الا أن عبادة إبليس والملائكة الذين نقلنا في الخبر في الخطبة الأُولى أنهم أهبطوا إلى الأرض وطردوا الجنّ إلى البحار ورؤوس الجبال وعبدوا الله في الأرض زماناً كانت عبادة روحانية لا يستدعي زماناً موجوداً بل أحوالاً موهومة تشبه الزمان، وأن إبليس عبد الله في تقدير أزمنة مبلغها ستة آلاف سنة قبل خلق آدم. ويحتمل أن يقال: إنها كانت جسمانية في زمان من أزمنة الدنيا ولكن يكون في كمية كمقدار خمسين ألف سنة من سنّي الدنيا.
فأما قوله: «لا يدري»: ففي نسخة الرضيّ بالبناء للفاعل، وفي غيرها من النسخ بالبناء للمفعول. والرواية الأولى تستلزم أنه مّمن لا يدري أنّ تلك السنين مــن أيّ السنين؟

والثانية: يحتمل فيها كونه ممّن يدري ذلك، وبالجملة فلما كانت مدة عبادة إبليس قبل آدم يحتمل أن يكون روحانية وأن يكون جسمانية، ويحتمل أن يكون بحسب ذلك في زمان موهوم أو موجود، وعلى تقدير أن يكون موجوداً يحتمل أن يكون ستة آلاف سنة من السنين المعهودة المتعارفة لنا، ويحتمل أن يكون من سنين كانت قبل ذلك مصطلحاً على تقدير كلّ منها بألف سنة أو بخمسين ألف سنة من سنينا لا جرم لم يمكن الجزم بواحد من هذه الاحتمالات فلذلك قال : لا يدري.
قال بعض الشارحين: ويفهم من تقديره علية السلام تلك المدّة بستة آلاف سنة لا يدري من أيّ السنين هي أنّه  سمع فيه نصاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجملاً ولم يفسره له ، أو أنه من سمعه وعلم تفصيله لكنّه لم يفصله للناس بل أبهم القول عليهم في تعيينه لعلمه أنّ تعيين سنيّ الآخرة مما يستعظمون ولا يحتمله أذهانهم فإنّ عبادته إذا كانت ستة آلاف سنة وكل يوم منها خمسين ألف سنة من سنيّ الدنيا كان مبلغ ذلك مما يخرج من ضرب ستة آلاف سنة في ثلاثمائة وستين مضروبة في خمسين ألفاً وهو مائة وثمانية ألف ألف ألف سنة - بتكرير لفظ الألف ثلاث مرّات - وعلى تقدير أن يكون مقدار كل يوم ألف سنة يكون مبلغها ما يخرج من ضرب ستة آلاف في ثلاثمائة وستين  ألفا وهوألفا ألف ألف سنة بتكرير الألف ثلاث مرّات، وتثنية الأوّل ـ ومائة ألف ألف ـ بلفظتين ـ وستون ألف ألف - بلفظتين أيضاً ـ وذلك مما لا يحتمله أذهان السامعين، فلذلك أبهم القول فيه .
وقوله: «فمن ...» إلى قوله : «معصيته» : استفهام إنكار لوجود من يسلم . لعنة الله وعقوبته ممن يكون فيه رذيلة الكبر.
وقوله: «ويسلم على الله» : في معنى يرجع إليه سالماً من طرده ولعنته وعـذابـه . تقول: سلم علي هذا الشيء إذا رجع إليك سالماً ولم يلحقه تلف، والباء في قوله: بمثل معصيته للاستصحاب : أي فمن يرجع إلى الله سالماً من عذابه وقد استصحب مـثـل معصيته إبليس : أي تكبّر كتكبّره وخالف أمر ربه.

وقوله: «كلّا»: ردّ لما عساه يدّعي من تلك السلامة التي استنكر وقوعها باستفهامه، وفسر ذلك الرد بقوله: «ما كان الله» إلى قوله: «ملكاً»، والباء في قوله: بأمر للاستصحاب أيضاً: أي ما كان ليدخل الجنة بشراً مستصحباً لأمر أُخرج بـه منها ملكاً، وذلك الأمر هو رذيلة الكبر التي يستصحبها الإنسان بعد الموت ملكة وخلقاً. جوهر نفسه، والقضية سالبة عرفية عامة: أي لا يدخل الجنة بشر بوصف الكبر مادام له ذلك الوصف، فإن كان ذلك الوصف يدوم كما في حق الكافر لم يدخل الجنة أبداً، وإن كان لا يدوم جاز أن يدخل بعد زواله الجنّه، فإذن لا مسكة للرعيّة به قول القائلين بتخليد الفاسق من أهل القبلة في هذا الكلام.
وأما حديث الإحباط فيقول: إنما كان، بسبب الكفر كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}([9]).
فإن قلت: الكلام يقتضي أنّ إحباط عمله وإخراجه من الجنة كان بسبب تكبّره لا بسبب كفره.
قلت: الأصل هو الكبر إلّا أنّ تكبّره كان تكبّراً على الله وإباءاً لطاعته واستصغاراً لما أمر به حيث قال: «أأسجد لبشر خلقته من صلصال، أأسجد لمن خلقت طيناً وذلك محادّة لله وكفر به مصارحة فكان ذلك مستلزماً لكفره، ولا شك أن الكفر يستلزم إحباط العمل واللعن والخروج من الجنة. وقوله: «إنّ حكمه في أهل السماء ...» إلى قوله: «لواحد»: أي في إفاضته للخير والشر على من يستعد لأحدهما فمن استعدّ من أهل السماء أو أهل الأرض لخير أو شر فحكمه فيه أن يفيض على ما استعدّ له وذلك حكم لا يختلف اعتباره من جهته تعالى.
وقوله: «ما بين الله ...» إلى قوله: «العالمين»: أي ليس بينه وبين أحد من خلقه صلح فيخصصه بإباحة حكم حرّمه على سائر خلقه فيختلف بذلك حكمه فيهم لأنّ الصلح من عوارض الحاجة أو الخوف المحالين عليه تعالى.
وقال بعض الشارحين: كلّ ما جاء من الإحباط في القرآن والأثر فمحمول على أن ذلك الفعل المحبط قد أخلّ فاعله ببعض شرائطه اللّازمة إذ لم يوقعه على الوجه المأمور به المرضي، أو فعله لا على بصيرة ويقين بل على ظنّ وتخمين.
وبالجملة فحيث يقع لا على وجه يستحق به ثواباً: لا على أنه يستحق به شيئاً ثم أحبط فإنّ ذلك مما قام البرهان على استحالته([10]))(([11])).

الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح : ۲۸۷ ضمن الخطبة رقم ۱۹۲ في طلب العبرة، ونهج البلاغة للشيخ العطّار : ٣٨٣ - ٣٨٤/ ضمن الخطبة رقم ۱۹۲ في طلب العبرة، شرح نهج البلاغة لابن میثم ٤ : ٢٤١ - ٢٤٢ خطبة رقم ٢٣٤ ، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده ۱: ۳۹۷.
([2]) شرح الألفاظ الغريبة: ٦٥١.
([3]) الحج: ٤٧.
([4]) المعارج: ٤.
([5]) المعارج: 4.
([6]) السجدة: 5.
([7]) انظر مجمع البيان لعلوم القرآن ۱۰: ۱۳۲.
([8]) مجمع البيان لعلوم القرآن ۱۰: ۱۳۲.
([9]) سورة ص: 74.
([10]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 245-249/ شرح الخطبة رقم 234.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 228-234.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2839 Seconds