من ألفاظ الأرض وتضاريسها في نهج البلاغة ((الدَحو))

مقالات وبحوث

من ألفاظ الأرض وتضاريسها في نهج البلاغة ((الدَحو))

441 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 27-08-2024

بقلم: د. سحر ناجي فاضل المشهدي.

الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، احمده استتمامًا لنعمته، واستعصامًا من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.

وبعد:
ورد في كلام الإمام (عليه السلام) في أربعة مواضع من النهج المعنى الحقيقي، فجاءت مفردة الدحو اسماً للمفعول، وذلك في قوله: سكنت الأرض مُدْحُوّةً في لجة تياره)(۱)، فسبحانه خلق الماء قبل الأرض ثم دحاها فيه وسكن بها مستفحل أمواجه، وهذا شهد به البرهان العقلي فالماء لما كان حاويا لأكثر الأرض كان سطحه الباطن المماس لسطحه الظاهر مكانا له، وواضح إنَّ اللفظ يعطي تقدم خلق الماء على خلق الأرض تقدما زمانيا(۲). وقال الإمام (عليه السلام) في بيان صفة الأمانة فقد قابل الإمام بين السماوات المبنية) و(الأرضين المدحوّة). قائلاً: «ثُمَّ أَدَاءَ الأَمَانَةِ، فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أهلهَا، إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ المُبْنِيَّةِ، وَالأرضينَ الْمُدْحُوَّةِ، وَالْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ المَنْصُوبَةِ»(۳). وفيه نلحظ مخاطبة للجماد لبعض بلسان أحوالها فـ (المبنية والمدحوّة صفات مفردة للسموات والأرضين على الرغم من كون السموات والأرض مجموعة، وربما ناسب المقام هنا؛ لأنَّ الأمانة مفردة مؤنث وكذا المبنية والمدحوّة، وفيه تشبيه لقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ووَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. كون السماوات مبنية والأرضين مدحوّة والجبال بأطوالها، وعروضها، وعلوها، وعظمتها فيها تنبيه وتعجب للإنسان على جرأته وتضييع أمانته، إذ أهل لها وحملها.
يقول البحراني: «فكأنه يقول: اذا كانت هذه الأجرام العلوية التي لا اعظم منها قد امتنعت من حمل هذه الأمانة حين عرضت عليها فكيف حملها من هو اضعف منها»(5)، وكان امتناعهن عن حمل الأمانة ليس لعظمة أجساد ولا استكبار عن الطاعة بل عن ضعف وإشفاق من خشية الله، فالامتناع والإشفاق والإباء مجازًا إطلاقًا لاسم السبب على المسبب(6). وورد اسم الفاعل (داحي) دالا على أنَّ الفاعل الذي قام بصفة الدحو هو الله (سبحانه وتعالى)، كما وردت مجموعة جمعا مؤنثا سالما (المدحوّات): «اللَّهُمَّ دَاحَيَ المُدْحُوَّاتِ، وَدَاعِمَ المُسْمُوكَاتِ، وَجَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا: شَقِيهَا وَسَعِيدِهَا»(7). فلفظ الجلالة منادى أصله (يا + الله) وبعده صفته تعالى (داحي المدحوّات) أي: باسط الأرضين السبع، ووصفها بصدق البسط على جملة الأرض مع أنها كرة وشهادة قوله: «والأرض بعد ذلك دحاها بذلك، وقوله والأرض مددناها. فباعتبار طبقاتها. وقد يصدق عليها البسط باعتبار سطحها البارز من الماء الذي يتصرف عليه الحيوان فانه في الأوهام سطح مبسوط وإن كان عند الاعتبار العقلي محدبا، وأشار إليه بقوله تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءِ بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]. فالدال والحاء والواو أصل واحد يدل على بسط وتمهيد. يقال دحا الله الأرض يدحوها دحواً، اذا بسطها. ويقال: دحا المطر الحصى عم وجه الأرض. وهذا لأنه إذا كان كذا فقد مهد الأرض(9). قال الله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] ، وهنا استدلال بخلق الأرض؛ لأنَّ الأرض أقرب الى المشاهدة فقدم الأرض على الفعل والفاعل وانتصب على طريقة الاشتغال، وفي الاشتغال تأكيد باعتبار الفعل المقدر العامل(11).

الهوامش:
(1) نهج البلاغة: خ ۹۱ ، ۸۹ ، وقد ورد في الخبر ان الارض دحيت من تحت الكعبة وهو يوم ٢٥ من ذي القعدة.
(۲) ظ: شرح نهج البلاغة: البحراني: ٢ / ٣٨٤.
(۳) نهج البلاغة: خ ۱۹۹، ۲۳۲.
(4) شرح نهج البلاغة: ٣/ ٤٣٧.
(5) ظ: المصدر نفسه.
(6) نهج البلاغة: خ ٧٢، ٥٩.
(7) ظ مقاييس اللغة: ٢ / ٣٣٣.
(8) ظ : التحرير والتنوير: محمد الطاهر ابن عاشور) ٣١ / ٨٦.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2598 Seconds