الباحث: عماد الخزاعي
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خير المخلوقين، محمد الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد:
قد اجتهد الباحثون الأكاديميون في قراءة نتاج أهل البيت عامة، وسيد البلغاء خاصة، وبيان أثره على العلوم ومنها اللغة والأدب، ومن تلك الدراسات القيمة رسالة الطالب ضياء طعمة عبد الحسين الطالقاني، الذي أعمل فكره و وظف إمكانياته بغية استجلاء المرجعيات الثقافية لطائفة من البلغاء المفوهين، الذين عُدّوا من المع خطباء عصرهم، وأخذ يشار إليهم بالبنان، ولا يختلف في فصاحتهم وبلاغتهم اثنان.
والحق أن ما هم عليه- الخطباء- هو نتيجة للمحة من سنا نور الفصاحة والبلاغة التي اقتبسوها من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وهذا ما تركز عليه جهد الباحث، والحق أنه كان موفقا في الكشف عن تلك المرجعيات الثقافية التي متح منها الحسن البصري وغيره، مع تغيير في الألفاظ وتلاعب في الأساليب مما جعل كلامهم يبتعد من حيث الرصانة والأسلوبية والبيانية عن أسلوبه(عليه السلام ) ومن تجليات تأثرهم التي أثبتها الباحث، نورد ما أفاده عن الحسن البصري الذي اعتمد في خطبه الدينية على موضوعات طرقها أمير المؤمنين(عليه السلام) كالتخويف من الموت، والزهد في الدنيا واليأس منها، والاستعداد لبيت الغربة والوحشة، وكان أثر كلام الإمام (عليه السلام) مهيمن على أغلبها.
ومن الخطب التي تأثر بها الحسن البصري، تلك التي دبجها الإمام(عليه السلام) محذرا فيها من الدنيا، ننقل منها: ((من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه))([1])، وقال في أخرى: ((من ساعاها فأتته، ومن قعد عنها واتته))([2]).
وهنا قال الباحث: (( فأمير المؤمنين(عليه السلام) يدعو إلى ترك الدنيا، لأن الحصول عليها لا يأتي بأن يقضي المرء عمره يلهث ورائها، لأن من فعل هذا فاتته الدنيا وأجحف بحظه من الآخرة، وكأن الدنيا داء فكلما استكثر الإنسان منها فإنه مستكثر مما يهلكه والمقل منها مستكثر مما يؤمنه))([3]).
ولعل سائل يسأل: هل يؤشر قوله( عليه السلام): (( من أقل منها...)) معنى الدعوة لترك الدنيا نهائيا!؟، ونحن نعلم أن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة الأطهار هو ترجمة للقرآن والسنة النبوية، وبه يكون الأقرب للمعنى هو الموازنة بين متطلبات الدنيا وحق الآخرة، والقناعة هي الحاكم في موازنة طرفي المعادلة التي طرحها (عليه السلام)، لذلك قال: (من أقل) وهذه العبارة لا تنفي العمل ولسعي لتحصيل خير الدنيا التي هي وسيلة لربح الآخرة ونماء رصيد العبد فيها، و للقرآن الكريم بيان لذلك، إذ جاء فيه: ((وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ))([4])، وأكد هذا المعنى النبي الكريم، بأفعاله، وأقواله التي منها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (( الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله))([5])، ولا تبعد حكم وأقوال سيد البلغاء عن ذلك فعن أمير المؤمنين(عليه السلام): ((نعم العون على تقوى الله الغنى))([6])، وقال (عليه السلام) أيضا: ((اتجروا بارك الله لكم فأني سمعت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الرزق عشرة أجزاء تسعة في التجارة وواحدة في غيرها))([7])، وقال (عليه السلام): ((غنى يحجزك عن الظلم خير من فقر يحملك على الأثم))([8])، ولعل ما في هذه النصوص يقطع العموم الذي أطلقه الباحث، أما قول قوله: ( لان ذلك لا يأتي بأن يقضي المرء عمره يلهث ورائها، لأن من فعل هذا...) لعلها عبارة غير مستقرة، ولربما كان أكثر دقة لو قال في بيانه: لأن من ينغمس في ملذاتها ويسعى وراء بهرجها، فلا يلبث أن يفني عمره في ديمومة وزيادة هذا الثراء وبه ينفد عمره فيها وعندها قد أجحف نصيبه من الآخرة. فالدعوة إلى عدم التمادي في مغريات الدنيا وزينتها، أو لنقل الاكتفاء بما يضمن العيش السوي، البعيد عن ذل المسألة والحاجة إلى الناس.
ولوعدنا إلى قراءة كلام الإمام(عليه السلام) لوجدناه حاضرا بالمعنى والأسلوب في مستهل خطبة الحسن البصري التي قال فيها: (( إن الدنيا دار عمل من صحبها بالنقص لها، والزهد فيها سعد بها ونفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها، والمحبة لها شقي بها وأجحف بحظه من الله عزّ وجل))([9]).
فالبصري يرى ما قاله الإمام(عليه السلام) ويذهب أيضا إلى الطريقة التي اعتمدها(عليه السلام) من توصيل الفكرة، تلك الطريقة القائمة على الشرط ثم النتيجة: فالشرط عند الإمام( من أقل منها) تكون النتيجة( استكثر مما يؤمنه)، عند البصري( من صحبها بالنقص منها) تكون النتيجة( سعد بها) والبصري لم يغفل المقارنة التي اعتمدها الإمام(عليه السلام) بين : من أقل ، ومن استكثر من الدنيا والتي اعتمد الطباق فيها: ( ساعاها- قعد عنها، وفاتته- واتته، يؤمنه – يوبقه) فقال البصري: (سعد وشقى)([10]).
فالمقاربة واضحة بين النصين، والاقتباس الموضوعي قائم بذاته بينهما أيضا، إلا أن هناك فرق بين الرصيد المفرداتي بين القولين.
ويستمر الباحث في الكشف عن مواطن التأثر بكلامه(عليه السلام) مع بيان الفرق بين النص الأصلي والنص المولد، وعليه إذا كان كبار الخطباء وفصحائهم قد اغترفوا من هذا المعين العذب الذي لا ينضب فهي بطبيعة الحال دعوى للوقوف على مضامين كلام الإمام(عليه السلام) والارتشاف منه على اختلاف المستويات لغوية ومعنوية واصلاحية، ونحن أقرب للنور من غيرنا، وعلى عاتقنا تقع مسؤولية تمثله والتحلي بمضامينه، ففيه صلاح ديننا ودنيانا.
الهوامش:
([1] ) نهج البلاغة: 189.
([2] ) المصدر نفسه: 109.
([3] ) أثر كلام الإمام علي في النثر العربي حتى نهاية القرن الثاني للهجرة الحسن البصري وابن المقفع إنموذجا، تأليف ضياء طعمة عبد الحسين الطالقاني:128.
([4] ) القصص: 77.
([5] ) الوسائل: 12/ 42، الباب 23 من أبواب مقدمات التجارة، وينظر: تحرير الأحكام، العلامة الحلي: 2/ 247.
([6] ) الوسائل: 12/ 16.
([7] ) الوسائل : 12/ 5.
([8] ) الوسائل : 12/ 17.
([9] ) حلية الأولياء: 2/ 140.
([10] ) ينظر: أثر كلام الإمام علي في النثر العربي: 129.