الباحث: محمد حاكم الكريطي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين، وبعد
حث أمير المؤمنين (عليه السلام), الناسَ على الوفاء بالعهد. قال (عليه السلام): ((إن الوفاء توأم الصدق))[1], حرص الإمام ( عليه السلام ) أن يجعل من الوفاء تابعا ومن الصدق متبوعا, من خلال كلامه المبارك, وصار الصدق هو القطب الذي دار حوله كلام الإمام (عليه السلام), ذلك لأن تلك الصفة استمدت أثرها من العمق الاجتماعي الذي نشأت فيه منذ مطلع الحياة العربية في جاهليتها وإسلامها, لذا اصبح الصدق قيمة عليا من القيم الراسخة في المجتمع, ولا يمكن للتحول الزمني أن يجرفها, أو تتغير على وفق المتغيرات الطبيعية للأشياء ضمن الحركة التاريخية, إلا إن من الملاحظ في كلام الإمام (عليه السلام) هو الحرص الشديد على دفع الناس باتجاه الوفاء بالعهد, فهذا الكلام المبارك يدور حول الوفاء وكيفية الالتزام به من خلال التذكير بالقيمة الاجتماعية العالية للصدق, والموازنة بين هذين القيمتين ليكون الصدق دالاً على الوفاء, فالإمام (عليه السلام) حثّ على الوفاء مستندا في ذلك الى قوله تعالى في عدد من الآيات المباركة, منها قوله تعالى: ((وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا))[2], وقوله تعالى : ((وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)) [3] وقوله جل وعلا: ((بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ))[4], وغير ذلك من الآيات المباركات التي أشارت الى الوفاء بالعهد, ونظرا للأهمية البالغة للعهود في بناء الحياة الاجتماعية الرصينة وثباتها على أسس إسلامية تكفل الحقوق الشخصية والجمعية للفرد والمجتمع, نلاحظ تكرار الآيات للتذكير بالوفاء بالعهود, لذا جاء كلام الإمام (عليه السلام) ترجمة حقيقية لتلك المعاني الإلهية, والسير على وفق المبدأ الذي رسمه الأنبياء من قبل, وكل الديانات السماوية واضح أنها تطرقت لهذه القيمة الفضلى, ذلك لما لها من أثر مباشر في حياة الجماعة, إلا إن الوفاء بالعهد كان على مختلف المواثيق منها حتى ما كان متصلا بين الأموات والاحياء, فقد نقل عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله : (( إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ))[5], وهذا العهد الذي تحدث عنه الإمام الرضا ( عليه السلام ) هو الذي اختص به الإمام المعصوم, وليس عهدا على جميع الناس, فالمعصوم هو الكفيل بالوفاء وما ذلك الوفاء إلا في الوقوف على قبور من أوثق العهد معهم والدعاء بالمغفرة والرحمة لهم, إذن هناك إشارة بيّنة وواضحة على أهمية الوفاء بالعهد, فإن الوفاء ليس مع الأحياء وحسب, لا بل هو ممتدٌ الى حياة الأموات, فهو مستمر مع الانسان منذ تكليفه الشرعي حتى قيام الساعة, وهذا الاستمرار الطبيعي للعهد ما هو إلا إشارة بالغة الأثر للأهمية القصوى التي حازها الميثاق في الحياة الإسلامية, والعهد والوفاء به غير مختص بين المسلمين وحدهم, لا بل الشريعة الإسلامية تعدت ذلك بكثير, وأوجبت على المسلم المتعاهد مع الآخر المشرك أن يفي بعهده, حيث قال تعالى : ((إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ))[6], لذا صار العهد قيمة إسلامية اكتسبت القداسة من أثر التكرار القرآني لذكرها, وما هذا التكرار إلا لعظيم أهميتها, فضلا عن تلك الدلائل الدينية البينة من خلال القرآن الكريم وقول الإمام علي (عليه السلام) إلى ما مر ذكره من قول الإمام الرضا (عليه السلام), فإن الفطرة السليمة للإنسان بمختلف اتجاهاته الفكرية والعقدية, تولي أهمية كبيرة للوفاء بالعهد, وتذم من لا عهده له ولا وفاء, ويكاد يكون الإنسان الذي سلبت منه تلك الصفة قد سلبت منه إنسانيته قبلها وإلا فالإنسانية هي الذات القويمة في أداء الفضائل, وهذه في مقدمتها نعني الوفاء, فتلك الآصرة تعد من الأواصر ذات الرتب العالية في كل المجتمعات ليس العربية منها وحسب, وإنما حتى الشعوب الغربية حرصت وعملت على الوفاء بالعهود والمواثيق على مستوى الأفراد والجماعات, فضلا عن ذلك حتى على المستوى السياسي الذي يظهر دائما بصور وأشكال مختلفة تبعا لاقتضاء المصلحة السياسية التي تهم البلد, لذلك نلاحظ اختلاف المواقف والتجاذبات وعدم الثبات على خط معين, كل هذا يشاهد في الحياة السياسية, ومما يبدو مخالفا تمام الاختلاف للحياة المجتمعية من حيث المبادئ والقيم والمثل التي لابد من انتهاجها عبر سلسلة الأجيال. لكن من كل ذلك القلق الذي يصيب جميع المحاور السياسية بأشكالها, نلاحظ الاحتفاظ بالعهود والمواثيق الدولية بين الأمم المتعاهدة حتى عبر أجيال متعددة ضمن نطاق سريان مفعول ذلك العهد أو الميثاق, من هذا نفهم ليس الالتزام بالعهد السياسي جاء من منطلقات أخلاقية سياسية, وإنما جاء ذلك من الأهمية التي تلقي بواقعها على حياة تلك الجماعة المتعاهدة, نظرا لما تحققه من مصالح مشتركة بين البلدين الموقعين لذلك العهد, وهذا ما يضمن لهم حياة كريمة عبر مستقبلهم المرسوم على وفق ذلك العهد, إذن هناك نظرتان للعهد؛ الأولى هي المنبثقة من الواقع الديني الاخلاقي والذي أوصى به الإمام (عليه السلام), ولاشك أن الدين هو ما يرسم ويحدد المصلحة الذاتية للإنسان فالخالق الذي أوجد البشر هو الذي رسم القانون الكوني الذي تتحرك ضمن نطاقه الخلائق، فإن المواثيق التي يوصي بها (عليه السلام) ماهي إلا لتحقيق مصالح الناس, لكن ليس على النهج السياسي النفعي, وإنما على مسارات إلهية خبرت حياة الفرد وكانت أبصر بمستقبله من نفسه, يضاف إلى ذلك القيمة الاخلاقية للعهد, حيث استندت إلى جذور تاريخية ضاربة في العمق ترتبط مع فطرة الإنسان التي جُبل عليها, أما النظرة الأخرى للعهد فهي التي جاءت من وسط النفعية السياسية التي تنظر للأشياء من زاوية محدودة وهي كيفية الحصول على المنافع, ومع ذلك فإن العهد من خلاله يجدي نفعا الى أمة بكاملها أو أمتين اللتين وقعتا ذلك العهد, إذن فالعهد يتحرك على وفق مساحة بين طرفين كليهما لخدمة الانسان, لكن الأول رسمته الشريعة السماوية وقد جاء به الامام (عليه السلام ) إذ مزج بين النفع والأخلاق والمثل العليا للمجتمع, أما الآخر فهو العهد السياسي الذي لاشك أنه يقدم نفعا للإنسان ولكن خالي من كل القيم الاجتماعية التي ولدت مع الإنسان وفطرته.
الهوامش:
[1] - نهج البلاغة : 100
[2] - سورة الإسراء : 34
[3] - سورة البقرة : 40
[4] - سورة آل عمران : 76
[5] - مصدر إيراني مترجم
[6] - سورة التوبة : 4