الباحثة : خُطَى الخزاعي
(والله لأحرقن عليكم الدار)... (ولا تبقوا لأهل هذا البيت باقية) ...كلمات ما نُطِقت عبثًا، لينتهي أثرها بنفاد أبعاد زمانها ومكانها وشخوصها، بل ترجمت تلك الشعارات عن نهج طويل الأمد خُطت أصولُه في يوم سقيفتهم المشؤوم، يقضي بإقصاء آل محمد (صلوات الله وسلامه عليه وعليهم) ومصادرة حقوقهم بأي وسيلة كانت، مُفَعَلًا بأعظم انتهاك على وجه الأرض، وهو انتهاك حرمة الله وحرمة رسوله، ليُصدّرَ بذلك المنتهك المؤسس رسالة عبر الزمن إلى متوارثي نهجه بأنَّ كل شيء مباح في هذا السبيل، وأنَّ مهما أوغلتم في الشر فهو أدون بكثير ممّا فعلناه فلا تقصّروا ...
وصدّقَ المتوارثون وصايا أسلافهم ، فلم يدّخروا وسعًا، ولم يتركوا وسيلة مهما شنعت في تصفية آل الرسالة ومحو آثارهم، فتفننوا في أشكال التعذيب البدني والنفسي، وقَتَّلوا صبرًا، ومن الأساليب الإقصائية التي اعتمدها الظالمون ، التشريد في الآفاق ، إذ عمدوا إلى إبعاد بعضٍ من آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيئتهم الجغرافية الأم وعن قواعدهم الجماهيرية الموالية، إلى مناطق أخرى إما بالإقصاء المباشر كالترحيل القسري أو غير المباشر بالإلجاء إليه بعد إشاعة أجواء من القتل والإرهاب، حاكيةً تشتيتهم هذا مراقدهم المنتشرة في بقاع مختلفة ومتباعدة عن موطنهم الأصل، ومنهم غريب سورا([1]) ، القاسم بن الإمام موسى بن جعفر (صلوات الله وسلامه عليهما)، الأخ الشقيق للإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه)، الممدوح على لسان أبيه المعصوم الذي كان يحبه حبًا شديدًا([2])، اضطره التضييق العباسي إلى ترك وطنه الأم والسير على وجهه باتجاه العراق عله يصيب قبر جده أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) فيأمن بجواره، ومما ذكره التاريخ بشأنه (أنَّه لمّا أشتد غضب [الرشيد] جعل يقطع الأيدي من أولاد فاطمة ويسمل في الأعين وبنى في الأسطوانات حتى شردهم في البلدان ومن جملتهم القاسم بن الإمام موسى بن جعفر أخذ جانب الشرق لعلمه إن هناك جده أمير المؤمنين )([3])، وسار(عليه السلام) متخفّيًا إلى أن استقر به المقام في قرية بأرض بابل (سورا) على جانب شط الفرات، بعد أن اطمأن إلى عقيدة أهلها وصلاح سيرتهم، وعُرِفَ عندهم بالغريب، وما إن أقام قليلًا بينهم ، حتى استشعرت قلوبهم الموالية النور العلوي الذي كان يحف به ، فراقَ أعينهم منظر عبادته وخشوعه ،وطاب لأسماعهم نغم تلاوته ، فرأوا فيه سيدًا جليلًا ذا أصول كريمة وإن لم يبدها لهم، فآل الرسول (سلام الله عليهم) تُعَرّفُهم مزاياهم الواضحة، التي ما إن يحلَّ أحدهم بأرض حتى تعم بركته تلك الأرض وينتشر عبق هديه ربوعها، ويستمر في إقامته هناك إلى أن يمرض هذا السيد العلوي مرض الموت فيكشف للناس عن حقيقته (ومرض القاسم مرضا شديدا حتى دنى أجله وتصرمت أيامه جلس الشيخ عند رأسه يسأله عن نسبه وقال : ولدي لعلك هاشمي قال له : نعم أنا بن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) جعل الشيخ يلطم على رأسه وهو يقول : وا حيائي من أبيك موسى بن جعفر قال له : لا بأس عليك يا عم إنك أكرمتني وإنك معنا في الجنة..)([4])، وأوصاه بعدة وصايا منها أن يدفنه عندهم، وأن يأخذ طفلته فاطمة ذات الثلاث سنوات الى موطن أبيها في المدينة المنورة وإلى الدار التي خلت إلّا من الثكالى والأيتام، فيُدفن كما أوصى، ويُصبح قبره على مرِّ الزمان مزارًا عامرًا يؤمه الموالون من شتى الأصقاع مبددين آلام غربةٍ جرّعها إياه الظالمون في حياته ، فيعود ويرتبط مرقده من جديد مع المراقد الطاهرة الأخرى ويُعاد تشكيلة العُقد الفاطمي بعد قطعه ونثره، لكن بإحاطة أوسع وبخيبة للظالمين أكبر (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) .
الهوامش:
[1] ينظر: منتهى المطلب ( ط.ج )،العلامة الحلي: ح7، هامش ص 135
[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، الجزء : 48، هامش ص 283
[3] شجرة طوبى، الشيخ محمد مهدي الحائري، 1/ 171
[4] شجرة طوبى، الشيخ محمد مهدي الحائري: 1/ 172