عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين
كثيرة هي المواجهات بين الحقِّ والباطل على مرِّ العصور والدهور واختلاف الأشخاص والمسميات، فيلتقي الخير المحض بالشرِّ المحض، وهنا تحدث المواجهة، فيسود الصمت وتقف العيون محدِّقةً بكلِّ سعتها، وتخرس الأسماع مطرقة لما سيؤول له الحدث، الكلُّ يُراقب المشهد مذهولًا، فالطاغية جبَّار متكبِّر، طاعن في الظلم والهتك، لا يُبالي بالدمِّ مهما جرى، وبالقتل مهما بلغ؛ بل قد يكون القتل عنده أهون الهين، فهو يملك الأدوات والمعدَّات، والجند والمال، وفوق كلِّ ذلك يملك سطوة القيادة وعنجهية الرأي على الجميع، لم يسمع قول (لا)، وإن تفوه بها أحد لا يُمهله أن يقول غيرها .
أمَّا المقدَّس، فهو لا يملك سوى ما عليه من ثياب وما بيديه من قوت يومه، سلاحه التسبيح، وجيشه التهليل والتكبير، يملك الدُّنيا بوقاره والآخرة بعمله، لا يقول سوى الحق، ولا يعرف معنى الخوف، مؤمنٌ بالأجل ومتيقن بعاقبة خير العمل، لا تعني له الدُّنيا بقدر ما هي قنطرة كلَّما قلَّت مسافتها استبشر بلقاء ربِّه . ومن كلِّ ما سبق تشتدُّ أتون المواجهة بين الطاغية والمقدَّس، فهل سيفلحُ الطاغية بما وقب أو ينتصرُ المقدَّسُ بما انتدب ؟
ومن تلك المواجهات التي حدثت على مرِّ العصور مواجهة الإمام الهادي علي بن محمَّد الجواد (المقدَّس) مع طاغية بني العبَّاس المتوكِّل العبَّاسي، إذ يُنقل أنَّ المتوكِّل قد زها بملكه الآفل، بعدما أخذ السُّكر منه مأخذه، فخمر عقله، وخامره الشك بأنَّه سيخالف القدر هذه المرَّة وينتصرُ على المقدَّس، فأرسل إلى الإمام الهادي (عليه السلام) جيشًا من كلابه مدججين بالسِّلاح، فحوصِر بيت الإمام (عليه السلام)، ثمَّ كان الاقتحام بسرعةٍ وشدَّة في البأس والإقدام، خوفًا من أن يُمهلوا المقدَّس فيجمع جنده وحُرَّاسه، ولكن المفاجئة أنَّهم وجدوا الإمام الهادي (عليه السلام) ((عَلِيهِ مِدرعة من شعر، وعَلى رَأسه مِلحفة من صوف، وَهُوَ مُسْتَقْبل الْقبْلَة، يترنَّم بآياتٍ من الْقُرْآن فِي الْوَعْد والوعيد، لَيْسَ بَينه وَبَين الأَرْض بِسَاط إلاَّ الرمل والحصى))([1])، فشدَّد الجند أن يأخذوا الإمام على هذه الحالة إلى طاغية بني العبَّاس في جوف الليل، ولمَّا مثُل بين يديه والمتوكِّلُ في مجلس الخمرة بين نُدمائه، فلمَّا رأى الإمام (عليه السلام) أراد أن يبدأ المنازلة بجولةٍ عاقبتها خاسرة، فقرَّر النزال ووجَّه الكأس مملوءةً بالخمر إلى الإمام (عليه السلام)، وكان الجواب بكلِّ هدوء ومن دون ارتياب: (مَا خامر لحمي وَدمِي قطُّ)، فقال له أَنْشدني شعرًا أستحسنه، فَقَالَ الإمام (عليه السلام): إنِّي لَقليل الرِّوَايَة مِنْهُ، فَقَالَ: لَا بدَّ، فأنشده:
باتوا على قُلَلِ الأَجبال تحرسهمْ ... غُلْبُ الرِّجَال فَمَا أغنتهمُ القُلَلُ
واستُنزلوا بعد عِزٍّ من معاقلهم ... فأُودعوا حُفَراً يَا بئسَ مَا نزلُوا
ناداهمُ صارخٌ من بعدِ مَا قُبِروا ... أَيْن الأَسرّة والتيجان والحُلَلُ
أَيْن الْوُجُوه الَّتِي كَانَت منعَّمةً ... من دونهَا تُضربُ الأَستار والكِلَلُ
فأفصح الْقَبْر عَنْهُم حِين ساءلهمْ ... تِلْكَ الْوُجُوه عَلَيْهَا الدُّود يَقْتَتِلُ
قد طَال دهراً مَا أكلُوا وَمَا شربوا ... فَأَصْبحُوا بعد طول الْأكل قد أُكلوا([2])
وهنا أُطرقت الأسماع فسكت الجميع وكأنَّ على رؤوسهم الطير، وظنَّ من حضر بأنَّ المقدَّس سيفقد الحياة بلا محال؛ ولكنَّ الله وعد ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، فلاحت بشائر النصر بعدما هُزم غرور الطاغية، وصار يبكي من شدَّة ما أصابه، فهذه الأبيات قد أرجعت له وعيه وهزمت الخمرة التي استحكمت على عقله، فكان تأثيرها أقوى من أيِّ مسكرٍ، وكيف لا تكون كذلك وهو نور من شهاب ثاقب بهدي الإله .
وهُنالك هُزم الجمع وولَّى المتوكِّل يتعثَّرُ بدموعه، فهو وإن جمع الرِّجال وشدَّد الحراسة فلا بدَّ من يومٍ يُفارق هذه الدُّنيا إلى دار حسابٍ وسؤال، وما يُلاحظ من هذه المواجهة أنَّ المقدَّس (الإمام الهادي) على الرغم من بطش المتوكِّل وسوء نيته معه (صلوات الله عليه) كان ناصحًا له ومذكِّرًا بالآخرة التي فيها المقام الدائم، وواعظًا من سوء ما يفعله، إلَّا أنَّ المتوكِّل ظلَّ في طُغيانه ولم يستطع بعد هذه المواجهة مع الإمام (صلوات الله عليه) إلَّا أن يُرجعه إلى داره، ثمَّ يذهب المتوكِّل مقتولًا وهو على مائدة الخمر مختلطًا دمه بها، تاركًا الأمر للمعتز فيتجرأ لقتل الإمام الهادي (عليه السلام) في مثل هذا اليوم من شهر رجب سنة 254هـ([3]) .
السلام على الإمام الهادي ما بقي الليل والنهار ورحمة الله وبركاته...
الهوامش:
([1]) الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي (المتوفى: 764هـ)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث – بيروت، 1420هـ- 2000م: 22/48 – 49 .
([2]) ينظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: 3/272 – 273 ، الوافي بالوفيات: 22/48 - 49 ، حياة الحيوان الكبرى: 1/473 – 474 ، قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر: 2/551 – 552 .
[3])) ينظر: إعلام الورى بأعلام الهدى: 2/109 .