بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل خير الخلق أجمعين محد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
بعد أن ألقى الإمام الحسن عليه السلام خطبته في أهل الكوفة ليستنهضهم في الخروج إلى حرب الجمل تبعه عمار بن ياسر فبيّن فضل أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ومناقبه وشأنه عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله فكان أول من أجاب مالك الأشتر ولم يكتف الأشتر بأن جعل نفسه أول مَنْ أجاب دعوة الجهاد وأول لاحقٍ به من أهل الكوفة بل حثهم حثّاً شديداً قائماً على الإشادة بمنزلة الإمام علي عليه السلام، وفضله، فقال: ((... وقد جاءكم اللهُ بأعظم الناس مكاناً في الدين وأعظمهم حرمةً، وأصوبهم في الإسلام سهماً، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وأفقه الناس في الدين، وأقرأهم لكتاب الله، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس، وقد استنفركم فما تنتظرون؟))[1].
مما تقدم يتبين أن دعوات هؤلاء الأصحاب لمجابهة رياح الشك والقلق والخوف من الفتنة في المجتمع الكوفي كانت تستند إلى طمأنتهم بأنهم سيلحقون ويتبعون الأعلم، والأفقه والأفضل من صحابة النبي صلى الله عليه وآله، وذا السابقة والجهاد والشجاعة.
وقد ترك كل ذلك أثره فغلبَ أمرهم تخذيل أبي موسى ولحق أهل الكوفة بالإمام علي طائعين، وأسهموا في حسم معركة الجمل بالنصر للإمام علي عليه السلام.
ومن خلال تأمل النصوص الواردة بشأن معركة الجمل يمكن أن نتبين ما يلي:
1- أرجع الإمام علي أسباب مناهضة السيدة عائشة له، وخروجها وخلافها عليه–مع الصحابيين طلحة والزبير–إلى الحسد لما حظي به من خصائص ومزايا لم يحظ بها سواه، فقال مجيباً رجالاً من أهل البصرة سألوه عن سبب شقاقها ومظاهرتها عليه بأن أول ذلك كان لـ ((تفضيل رسول الله صلى الله عليه وآله لي على أبيها وتقديمه إياي في مواطن الخير عليه، فكانت تضطغن ذلك علي... وحسدتني منه...))[2]، وعدّ الإمام علي من مواطن الخير هذه مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله له من دون الأصحاب، وسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد إلاّ بابه، وثبوته في خيبر بعد هزيمة من سبقوه إلى القيادة، وتسَلُّمه الراية وتحقق الفتح على يديه، وبعث الرسول صلى الله عليه وآله له بسورة براءة، وصرف أبي بكر عن ذلك، فضلاً عن فضل المصاهرة بزواجه بالسيدة فاطمة الزهراء، التي كان لها من أبيها مكانة ومنزلة لا تُضاهى[3].
إن ما تفرد به الإمام علي من رفعة شأن، وعلو مكان عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله كان محركاً لكوامن الحسد عند معظم الصحابة[4] من قريش خيارها وشرارها على اختلاف طرق التعبير عن ذلك، وقد بات هذا الأمر معلوماً للموالين للإمام علي، إذ قام الصحابي أبو الهيثم بن التيهان[5] بعد خروج أصحاب الجمل على بيعة الإمام علي، ليكشف بعضاً من أسرار هذا الاعتراض فخاطب الإمام قائلاً: ((يا أمير المؤمنين إن حسد قريش إياك على وجهين، أما خيارهم فحسدوك منافسة في الفضل وارتفاعاً في الدرجة، وأما شرارهم فحسدوك حسداً أحبط الله به أعمالهم وأثقل به أوزارهم، وما رضوا أن يساووك حتى أرادوا أن يتقدموك فبعدت عليهم الغاية، وأسقطهم المضمار، وكنت أحق قريش بقريش...))[6].
فعليّ كان يمثل باستمرار تحدياً بوجوده التكويني، كان يمثل تحدياً بجهاده، بصرامته، ببسالته، بشبابه، بكل هذه الأمور كان عليّ يفوق الصحابة بالرغم من التفاوت الكبير في العمر بينه وبين شيوخهم، كان عليّ استفزازاً للآخرين، وهؤلاء الآخرون ليسوا كلهم يعيشون الرسالة فقط، بل جملة منهم يعيشون أنفسهم أيضاً، يعيشون أنانيتهم وحينما يشعرون بهذا الاستفزاز التكويني من شخص عليّ.. كان رد الفعل لهذا مشاعر ضخمة ضده[7]، فليس من السهل على النفوس أن ترتاح لمثله، وفي الناس نفوس تتوق إلى اثبات ذواتها، والأخذ بنصيبها من المكانة خصوصاً إذا كان ميدان التنافس واحداً، فهذا لا سبيل إلى إنكاره مادام من خواص النفوس حب التفرد بالكمال مهما كانت منزلتها من التهذيب والإيمان[8].[9].
الهوامش:
[1] المصدر نفسه، ص255.
[2] المصدر نفسه، ص409 وتنظر باقي الأسباب في الصفحات، ص410–412.
[3] لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله مع الإمام علي عليه السلام ينظر:
ابن هشام، السيرة، 2/242؛ ابن سعد، الطبقات، 3/22؛ الترمذي، سنن، ص979؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/326.
ولسد الأبواب وقول رسول الله صلى الله عليه وآله لمن تكلم في ذلك من أهله وأصحابه: ((ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي، بل الله عزّ وجل سدّ أبوابكم وفتح بابه)) ينظر: ابن حنبل، فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ص177؛ النسائي، الخصائص، ص73؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/338؛ ابن المغازي، المناقب، ص253.
وللفتح في خيبر وقول النبي صلى الله عليه وآله: ((لأُعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه)) وفي بعض الأحاديث زيادة: ليس بفرار ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه.
ابن حنبل، فضائل أمير المؤمنين علي، ص211–212؛ البخاري، الصحيح، ص659؛ الترمذي، السنن، ص980؛ النسائي، الخصائص، ص37–44؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/323؛ ابن المغازي، المناقب، ص176–185.
ولتبليغ سورة براءة وما ذكره النبي صلى الله عليه وآله من أنه أوحي إليه أن لا يؤدي عنه إلاّ رجلٌ منه، ينظر: ابن حنبل، فضائل أمير المؤمنين علي، ص254؛ الترمذي، سنن، ص979؛ النسائي، خصائص، ص111–115؛ الطبري، جامع البيان، 10/75–76. ولمكانة السيدة فاطمة ومنزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله سنكتفي بايراد الحديث النبوي: ((فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني)) البخاري، الصحيح، ص660.
[4] ولتعميق هذه الفكرة ينظر: في حديث الطائر المشوي لما دعى النبي صلى الله عليه وآله الله سبحانه وتعالى أن يُدخل أحب خلقه إليه ليشاركه في الطعام، قال أنس بن مالك: ((فلما سمعت هذا قلت: اللهم اجعل هذه الدعوة في رجل من الانصار، فخرجت أتشرف هل من أنصاري ثلاثاً فبينا أنا كذلك، إذ دخل علي عليه السلام فقال: هل من إذن؟ فقلت: لا، ولم يحملني على ذلك إلاّ الحسد...)) ابن البطريق، العمدة، ص251 وينظر: ص262.
[5] ابن مالك بن عمرو الأوسي الانصاري، شهد العقبتين وكان من الأنصار الذين أفشوا الإسلام في المدينة، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله المشاهد كلها، استشهد مع الإمام علي في صفين.
ينظر: ابن سعد، الطبقات، 3/448–449؛ ابن عبد البر، الاستيعاب، 4/200–201.
[6] الشيخ المفيد، الأمالي، ص155.
[7] الصدر، أهل البيت تنوع أدوار، ص242، وينظر: موقف الناس منه في غزوة تبوك، وقولهم: ((أن النبي صلى الله عليه وآله خلّفه لأنه استثقله). ابن هشام، السيرة، 4/175.
[8] الوائلي، هل تعثرت سياسة الإمام علي، ص99، وينظر: تعريض بعض الصحابة بالإمام علي ونسبة التيه والعُجب إليه في مجلس الخليفة عمر بن الخطاب وقول الأخير: ((وحق لمثله أن يتيه، والله لولا سيفه لما قام عمود الدين، وهو بعد أقضى الأمة، وذو سابقتها وشرفها)).ابن أبي الحديد، شرح النهج، 12/65.
[9] لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي عليه السلام والعوامل المؤثرة فيها (المراحل والتحديات)، الدكتورة ختام راهي الحسناوي، ص44-48.