من الفكر السياسي عند الإمام علي (عليه السلام): شروط استحقاق الإمامة -الحلقة الثانية-

مقالات وبحوث

من الفكر السياسي عند الإمام علي (عليه السلام): شروط استحقاق الإمامة -الحلقة الثانية-

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 08-03-2021

بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

وبعد:

لقد كان الحديث في الحلقة السابقة حول شروط استحقاق الإمامة وبينا أن الإمام علي عليه السلام قد وضع شرطين للإمامة وهما: (الأقوى على الأمر والأعلم بأمر الله)

أما في هذه الحلقة فسنتناول شروط الاستحقاق التي حصرها السنة والاشاعرة ومعتزلة البصرة في (العلم والعدالة والكفاية) تكاد تتفق في مضامينها مع ما أثر عن علي عليه السلام في (نهج البلاغة) من قول، إلا إنها تختلف مع فكر علي عليه السلام في الكيفية التي تحدد تلك الشروط، إذ بينما يقول أولئك بوجوب كون الإمام أفضل رعيته، فانهم يكتفون من ذلك بكونه (عالماً، عادلاً، كفؤاً) [1]، فلا يحددون المقياس الذي صار به الإمام هو الافضل. بينما يرى علي عليه السلام ان مستحق الإمامة يجب ان يكون (الأعلم، والأعدل والأكفى)، وبذلك صار الافضل لتفرده بتلك المزايا دون سواه من افراد امته، ومن هذا النبع استقى الشيعة الإمامية نظريتهم في الإمامة، ثم بعد ذلك بينوا الكيفية التي يمكن معرفة الافضل بها.

اما شرط وجوب «الأئمة من قريش»الذي يكاد يكون لا خلاف عليه لتواتره عن النبي صلى الله عليه وآله، فوجهة نظر علي عليه السلام فيه الحصر لا الاطلاق لقوله «ان الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح الولاة من غيرهم»[2]، فالإمامة ليست دولة في قريش، بل يجب حصرها في البطن الهاشمي الذي منه جاء النبي صلى الله عليه وآله ، فقد أثر عنه صلى الله عليه وآله قوله «ان الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بين هاشم»[3]، وبناء على ما ورد في الحديث الشريف فإن بني هاشم هم المصطفون من قريش، لذلك فإن علياً عليه السلام يرى ان «لهم خصائص حق الولاية»[4] دون غيرهم كما خصهم الله سبحانه بالنبوة دون غيرهم.

اما شرط (العصمة) الذي انفرد به الشيعة، فيمكن تلمسه في فكر علي عليه السلام في مواضع عدة من (نهج البلاغة)، فتميز علاقته بالرسول صلى الله عليه وآله دون سائر قرابته وصحابته منذ طفولته، غرس في نفسه المثل العليا فراض نفسه على الصدق قولاً وعملاً منذ نعومة اظافره ويمثل ذلك قوله «قد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا وليد، يضمني إلى صدره، ويكتنفني في فراشة... وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل»[5]، ولكن تعلقه بالفضيلة ومتناعه عن الرذيلة لم يكن عن تقليد، كما لم يكن تصرفاً آلياً لا خيار له فيه مما يعد من قبيل الالجاء ولكن تحكمه في نفسه بضبط ارادته هو ما حال بينه وبين الآثام بتصرف إرادي حر[6]، ويقول ضمن إحدى خطبه «إني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني»[7]، فالخطأ والصواب من طبائع البشر، وهو أيضاً من البشر، الا ان امتلاكه لزمام نفسه يحول بينه وبين مواقعة الخطأ مهما كان ضئيلاً، بفضل قوة ايمانه ورسوخ يقينه، فقوله ذلك لا يعني اعترافاً منه بعدم عصمته على سبيل التواضع كما يقول بذلك شارحان لنهج البلاغة[8]، ولكنه يعني العصمة الإختيارية بحمل الإستثناء في قوله (إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك مني) على قوله تعالى على لسان يوسف:

﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾[9] على اعتبار «ما رحم ربي: في موضع نصب بالإستثناء. وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء»[10]. وقول علي عليه السلام بالعصمة لا يعني اقتصارها على نفسه دون سواه من ولده من أهل البيت الذين وصفهم بأنهم «أزمة الحق، واعلام الدين، ولسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن»[11]، والقرآن كتاب الله الذي:

﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾[12]. وإنزال آل البيت عليهم السلام منازل القرآن يعني الإقرار بعصمتهم، لذلك جاء امره إلى المكلفين «بأن يجروا العترة في اجلالها واعظامها والانقياد لهاو الطاعة لأوامرها مجرى القرآن»[13]. فقول بعض المعتزلة باختصاص علي عليه السلام بالقصمة دون سواه من آل البيت[14] لا يتسق واستخدامه للعترة ضمير جمع الغائب (هم ـ أنزلوهم). وعليه فإن العصمة كشرط من شروط استحقاق الإمامة، لم يكن من ابتكار متكلمي الشيعة، وفقهائهم لأنهم ـ كما يبدو ـ قد أخذوه عن علي عليه السلام ، الذي يرى ان الإمامة نيابة عامة ومطلقة عن الرسول صلى الله عليه وآله في كل ما يتعلق بالدنيا والدين، وعلى ضوء ذلك يمكننا دراسة فكره في كيفيه انعقاد الإمامة، ورأيه في الأفكار التي طرقت المجال ذاته.[15].

الهوامش:


[1] راجع شروط انعقاد الإمامة عند السنة والاشاعرة ص 170-171 من هذا البحث.

[2] خطب ـ 144.

[3] صحيح مسلم 4/1782.

[4] خطب ـ 2.

[5] خطب ـ 190.

[6] مما يدل على التصرف الارادي الحر في فكر علي عليه السلام قوله «انما هي نفسي أروضها بالتقوى لتاتي امنة يوم الخوف الاكبر، وتثبت على جوانب المزالق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات ان يغلبني هواي ويقودني جشعي»رسائل ـ45.

[7] خطب ـ211.

[8] راجع: شرح ابن أبي الحديد 11/108، وشرح ميثم البحراني 4/48.

[9] يوسف /53.

[10] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/210، واعتبر المستثني في الآية منقطعاً على أساس انه ليس بعضاً من المستثنى منه ويمكن تقدير الا ـ بلكن.

[11] خطب ـ 86.

[12] فصلت/42.

[13] ابن أبي الحديد 6/376.

[14] راجع ابن أبي الحديد 6/376، فقد قصر العصمة على علي عليه السلام دون سواه.

[15] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص176 – 179.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2842 Seconds