عمَّار حسن الخزاعي
الحياة مسرح المواقف والبطولات، وعلى صدى أحداثها تبرز الرِّجالات، وبين آفاق تقلباتها يثبت العظماء، وفي خضمِّ معتركاتها تظهر القيادات، وإزاء مفاتنها وزبرجها تمتحن العقول فلا ينجو من حبائلها إلَّا صاحب القلب السليم، وقد ثبت لكلِّ ذي لُبٍ على امتداد التاريخ وبعرض الحياة أنَّ المواقف تكشف الرجال، وكلَّما اشتدَّت حرابها أظهرت حقيقة المعادن ويقين النيَّات، فلا يمكن اثبات الدَّرجات في سُلَّم المعالي ما لم تكن هناك ابتلاءات وامتحانات، فزمن الأمن والاستقرار خدَّاع لا يمكن فيه فرز التبر من التراب، وإذا ما تفحَّصت وجوه الرِّجال وجدت أنَّ الغالب فيهم يزمجرُ مكشِّرًا عن الأنياب، يرفع شعاراتٍ قامتها تقارب عنان السماء، ويضع لنفسه رصيدًا من وهم الانتصارات، فيجعل حرف (لو) مهيمنًا أسلوبيًّا على العبارات، قائلًا لو كان كذا لكنت كذا، ولو صار كذا فسأكون كذا، ولم يعلم أنَّ (لو) حرف امتناع لامتناع، فتمتنع عنه المعالي لامتناع أسبابها، لأنَّه في رفاهيَّة من العيش ولا ضريبة في الكلام؛ ولكن حينما يشتدُّ معتركها وتكشف عن ساقها ويحمي وطيسها يختفي الحرف (لو) ليحلَّ بدله صمتٌ على غرار صمت الأموات، أو يكون المشهد زوبعةً تفتقر إلى أيِّ موقفٍ أو نزال، ولذلك تكون المواقف على قدر أصحابها في الارتقاء إلى سُلَّم المكرمات، وقد أشار أبو الطيب المتنبِّي إلى هذا المعنى بقوله([1]):
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
وعندما نتصفَّح تاريخنا الإسلامي نجدُ ما تقدَّم ماثلًا في كلِّ المعتركات التي أصابت الدَّعوة الإسلاميَّة في مسيرتها الأولى عبر محطَّاتٍ برز فيها الأخيار، مسجلين أروع معانِ الرجولة والإباء بمواقف لا يمكن حسابها بالأرقام، وكان على رأس رجالات تلك المواقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ (عليه السلام)، الذي ما فتئ ثابتًا على صدر المكرمات كواسطة العقد، وكالشَّمس تتفضَّل بنورها على الكواكب، فكان يعلو بما يبذل من مواقف يتقرَّب بها إلى الله تعالى، منفردًا في أدائها فسبق من عاصره بالدهور وعجز من بعده عن التفكُّر باللحاق به، وما ببدرٍ وأحدٍ والأحزاب منك ببعيد، وفي الأخيرة صمت المسلمون بأجمعهم قد أخرسهم صوت هبل متمثِّلًا بعمرو بن ود، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يقول لهم: أيكم يبرز إلى عمرو وأضمن له على الله الجنة فلم يجبه منهم أحد هيبة لعمرو واستعظاما لأمره فقام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال له: اجلس ونادى أصحابه دفعه أخرى فلم يقم منهم أحد، والقوم ناكسوا رؤوسهم، فقام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأمره بالجلوس، ونادى الثالثة فلمَّا لم يجبه أحد سواه استدناه وعممه بيده وأمره بالبروز إلى عدوه، فتقدَّم إليه ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: برز الإيمان كله إلى الشرك كله))([2])، وكان عمرو بن ود يُؤَنِّبُ المسلمين ((وَيَقُولُ أَيْنَ جَنَّتُكُمُ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا؟، أَفَلَا تُبْرِزُونَ إِلَيَّ رَجُلًا؟ فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ نَادَى الثالثة، فقال:
وَلَقَدْ بُحِحْتُ مِنَ النِّدَاءِ ... بِجَمْعِكُمْ: هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفَتُ إِذْ جَبُنَ الْمُشَجَّعُ ... مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَلِذَاكَ إِنِّي لَمْ أَزَلْ ... مُتَسَرِّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى ... وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا، فَقَالَ: إِنَّهُ عَمْرٌو. قَالَ: وَإِنْ كَانَ عَمْرًا. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ)، فَمَشَى إِلَيْهِ. حَتَّى أَتَاهُ وهو يقول:
لا تعجلنّ فقد أتاك ... مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرُ عَاجِزْ
ذُو نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ ... وَالصِّدْقُ مَنْجَى كُلِّ فَائِزْ
إِنِّي لأرجو أن أقيم ... عَلَيْكَ نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضربة نجلاء ... يبقى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ))([3]).
فهذا موقف من معتركات امتحان البطولة والإباء وسلامة العقيدة وقوَّة اليقين، وكان المتفرِّدُ به أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن نُكِّست الرؤوس وصمتت الألسن وكأنَّ على الرؤوس الطير؛ حتَّى صار عمرو بن ود يستهزأ برجولتهم ويمتحن بقسوةِ الموقف هشاشة إيمانهم، وعندها بانت المواقف وتحقَّقت المطالب، ومن المشاهد الأخرى التي برزت فيها آفاق الرجولة مدجَّجة بالإيمان ومستعينة بالقربة الكاملة لله تعالى، ألا وهو يوم خيبر، وهو من الأيَّام التي امتحن الله تعالى بها ضائر المسلمين؛ ليكون عليهم شاهدًا فيما بعد من قابل الإيَّام بأنَّ من ينال شرف فتح خيبر لا يمكن أن يُقرن بغيره، ولا يمكن أن يُعدل عن سواه؛ ولكنَّهم تناسوا هذا اليوم الذي رجَّ أسماع الخافقين ببطولةٍ متفرِّدةٍ لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وكرامة أُخرى تُضاف إلى سجِّلٍ عانق عنان السماء بما ضمَّ من مفاخر حتَّى باتت الأرقام عاجزةً عن احتوائه، وملخَّص حادثة خيبر أنَّ اليهود نقضوا عهدهم مع الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وتحصَّنوا بحصنٍ لهم يُقال له خيبر، فبعث إليهم أبا بكرٍ ((فَرَجَعَ مُنْهَزِمًا وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، بَعَثَ عُمَر، فَرَجَعَ مُنْهَزِمًا، يُجَبِّنُ أصحابَهُ، ويُجَبِّنُهُ أصحابُهُ، فَقَالَ رسولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه [وآله] وَسَلَّم): لأُعطين الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا، يُحبُّ اللَّهَ ورسولَهُ، ويُحبه اللَّهُ ورسولُهُ، لا يَرْجِعُ حَتَّى يفتحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَثَارَ الناسُ. فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَإِذَا هُوَ يَشْتَكِي عينَهُ، فتَفَلَ رسولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه [وآله] وَسَلَّم) فِي عَيْنِهِ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الرايةَ، فَهَزَّهَا، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ))([4])، وفي روايةٍ أُخرى أنَّ النبيَّ لمَّا بيَّن أنَّ الذي سيبعثه يمتاز بحبِّ الله له وحبَّه لله ((تَصَادَرَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَ: فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنِهِ وَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ بِالنَّاسِ، قَالَ: فَلَقِيَ أَهْلَ خَيْبَرَ وَلَقِيَ مَرْحَبًا الْخَيْبَرِيَّ وَإِذَا هُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ ... أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ
قَالَ: فَالْتَقَى هُوَ وَعَلِيٌّ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَلَى هَاهَتِهِ بِالسَّيْفِ، عَضَّ السَّيْفُ مِنْهَا بِالْأَضْرَاسِ، وَسَمِعَ صَوْتَ ضَرْبَتِهِ أَهْلُ الْعَسْكَرِ، قَالَ: فَمَا تَتَامَّ آخِرُ النَّاسِ حَتَّى فُتِحَ لِأَوَّلِهِمْ))([5]) . هكذا تثبت أقدار الرجال فيأخذ كلُّ ذي حقٍّ نصيبه فما بين منهزمٍ من الأعداء، وما بين هاربٍ يدَّعي أنَّ قومه جبناء وهم يؤكِّدون جبنه لمَّا انهزم من الزحف مع معرفتهم بقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [الأنفال: 15 – 16] . ومع ذلك فقد ولَّوا الدُّبر في يوم ابتلاء مواقف الرجال؛ فيتصدَّى لها كفؤها المجرَّب فينال حبَّ الله تعالى له، ولم يتفرَّد أمير البطولات بما تقدَّم فقط؛ بل حباه الله تعالى بما أكثر من ذلك في يوم خيبر، ومنها أنَّ لحصن خيبر بابًا عظيمة فحملها أمير المؤمنين (عليه السلام) ((وأنَّه جُرِّب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلًا))([6])، وفي رواية أخرى تُثبت أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قلع الباب من مكانه فقال الرَّاوي: ((وقلع علىّ باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلًا إلا بعد جهد))([7])، ويترقَّى الأمر إلى أبعد من ذلك، وهو أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قلع هذه الباب العظيمة وتترَّس بها أي جعلها كالتَّرس الذي يُحمل باليد لردِّ ضربات سيوف الأعداء، وذلك بقولهم: ((حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) برايته، فلمَّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من يهود، فطرح ترسه من يده، فتناول عليٌّ بابًا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل، حتَّى فتح الله تعالى عليه، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه))([8])، ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل يُغادره إلى أعلى من ذلك بكثير، وذلك أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكتفِ بقلع هذه الباب التي عجزت عن تحريكها الرجال؛ ولم يكتفِ بجعلها كالتِّرس في يده على طول المعركة، وإنَّما حملها فصعد عليها المسلمون ودخلوا إلى الحصن، وهذا الأمر ورد عن جابر بن عبد الله (رضوان الله عليه) بقوله: ((إنَّ عليًّا (عليه السلام) حمل الباب يوم خيبر، حتَّى صعد عليه المسلمون فافتتحوها، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلًا))([9]) . هكذا تكشف الأهوال عن رجال المواقف وتبيِّن معادنهم ودرجاتهم وقيمتهم في الحياة، وقد أبانت المواقف الحرجة أمير المؤمنين (عليه السلام) بما حباه الله تعالى من قوَّة الإيمان وسلامة الدِّين حتَّى تفرَّد عمَّن سواه؛ ولكن ما أن تمضي بضع سنين حتَّى ينحاز المسلمون إلى من هرب بالأمس من القتال فيجعلونه حاكمًا عليهم بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ثمَّ ينقلونها إلى من جبن عن ملاقاة عدوِّه مبعدينها عمَّن حفظ الدِّين في أيَّام زلازل القلوب، ولكن تبقى لأيَّام الرَّخاء أحكامها فيبرز فيها من كان الصمت ديدنه عندما يحمي الوطيس . الحمد لله تعالى الذي شرَّفنا بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) .
الهوامش:
([1]) ديوان المتنبي على الرابط: https://www.aldiwan.net/poem10524.html
([2]) كنز الفوائد، أبو الفتح الكراجكي (ت: 449 هـ): 137 .
([3]) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر البيهقي (ت: 458هـ): 3/437 – 438 ، البداية والنهاية، ابن كثير القرشي (ت: 774هـ): 4/106 .
([4]) مسند البزار المنشور باسم البحر الزخار، أبو بكر أحمد المعروف بالبزار (ت: 292هـ): 11/327 .
([5]) الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة (ت: 235هـ): 7/393.
([6]) إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي (ت: 845هـ): 1/310 .
([7]) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، أحمد القسطلاني القتيبي المصري (ت: 923هـ): 1/341 .
([8]) سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت: 942هـ): 5/128.
([9]) سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت: 942هـ): 5/128 – 129 .