بقلم: السيد نبيل الحسني
((الحمد لله الذي لا تُواري عنهُ سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً))[1] وصلواته على ((أمين وحيه، وخاتمُ رسلهِ، وبشيرُ رحمتهِ ونذيرُ نقمته))[2].
أما بعد:
فإن المرء ليحار في دلالة النص الوارد عن أمير المؤمنين الإمام علي (صلوات الله وسلامه عليه) وهو يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن وارى بضعة النبوة فاطمة (عليها السلام) الثرى فحول وجهه الى قبر رسول الله، فكان مما خاطب به سيد الخلق أجمعين: ((آه واها، والصبر أيمن وأجمل، ولو لا غلبة المستولين علينا، لجعلت المقام عند قبرك لزاماً، وللبثت عنده معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية...))[3].
فبعد أن قام (عليه السلام) بشحن عواطف المتلقي في تأوهه وتصبره على المصيبة لا سيما وأن الآهات هي صوت يخرجه المتألم يقصد فيه جمع مشاعر السامع وشد أنتباهه الى أمر في غاية الأهمية ويدفعه للسؤال عن سبب هذه الآهات ولأن الإمام (عليه السلام) يدور كلامه مدار أثر شريعة الله تعالى، كان لهذه الآهات من الآثار النفسية في تحريك عقل السامع وحواسه كتأثير الحروف في أوائل بعض السّوَر القرآنية وما صحب بعض هذه الحروف من أحكام للمد أو القلقلة وغيرها بغية شد ذهن السامع وجوارحه لما سيتبع هذه الحروف في المصحف الشريف وكذا ما سيتبع هذه الآهات من فم الإمام (عيله الصلاة والسلام).
وعليه:
سيستجيب ذهن المتلقي وجوارحه الى ما بعد هذا الافتتاح من الآهات وهي إيراده لجملة من الافعال المرتبطة بقضيته الاساس وهي ظلامة البضعة النبوية وطرق الاستعانة على تحمل هذه المصيبة وبيان حجم الجريمة التي اقترفها الجناة بلحاظ النظر الى منزلة الضحية وشأنيتها عند الله تعالى وعند رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت المقاربة من القصدية للنص الشريف في الجعل المرتضوي (عليه السلام) في الثلاث القاسمة للمباني العقدية التي أستند عليها الخصم في حربه لبيت النبوة، فكانت المواجهة من الإمام علي (عليه السلام) على النحو الاتي:
1ـ الملازمة لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
2ـ التلبث بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والاعتكاف عنده.
3ـ البكاء والعويل عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذه الثلاثة ترتكز على تصبير النفس للمصيبة العظمة وهي فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنها كان منطلقه (عليه السلام) في التعامل مع مصيبته بفقد الزهراء (عليها الصلاة والسلام) وما جرى عليها من الظلم.
وقد أرشدت الأحاديث النبوية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذه السُنّة للاستعانة على المصائب التي تحل بالإنسان، فكان من هذه الأحاديث، ما يلي:
1ـ روى الحر العاملي (ت 1104هـ) (رحمه الله) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه قال في مرضه الذي توفي فيه:
((أيها الناس، أيما عبد من أمتي أصيب بمصيبة من بعدي فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بعدي فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي))[4].
2 ـ أخرج الدارمي (ت 255هـ) في سننه عن مكحول[5]، والبيهقي (ت 458هـ) عن ابن عباس، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
((إذ أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب))[6].
3ـ وأخرج أيضا عن عطاء، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إذ أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب))[7].
4ـ واخرج ابن عبد البر (ت 463هـ) عن عبد الرحمن بن باسط، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إذ أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي وليعزه ذلك من مصيبته))[8].
5ـ وأخرج الشيخ الكليني (ت 325هت) (رحمه الله) عن عبد الله بن الوليد بإسناده قال:
(لما أصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) تعز الحسن الى الحسين (عليه السلام) وهو في المدائن، فلما قرأ الكتاب قال:
(يا لها من مصيبة ما أعظمها مع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
((من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابه بي فإنه لن يصاب بمصيبة أعظم منها))، صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[9].
وهذه النصوص الشريفة تكشف عن حجم الألم الذي كان يشعر به الإمام علي (عليه السلام) والمصيبة التي أحلت به لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن هذه المصيبة هي مما هوّن عليه مصيبته بفقد الزهراء (عليها السلام) فضلاً عما، نزل عليها من المحن، كما بين النص الشريف في ذكره وبيانه للظلم الذي أصابها من (دفنها سراً، وهضم حقها قهرا، ومنع ارثها جهرا) فمصيبة وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعظم مما جرى ولذا قال:
((فإلى الله يا رسول الله المشتكى وفيك احسن العزاء)).
فكان عزائه برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هوّن عليه عزائه بفقد فاطمة (عليها السلام) وما جرى عليها وهذا من أصدق الدلالات على درجة حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وايمانه بالله تعالى.
وهو أمر وجداني لا يحتاج الى تدليل كي نثبت العلاقة بين الحب والايمان ويكفي بذلك شاهداً، قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين))[10].
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أنّ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الا الله، وان يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار))[11].
فكيف بالإمام علي (عليه السلام) وهو ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واخيه وابو سبطيه الحسن والحسين (عليهما السلام).
ولذلك:
كان يناشد اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحتج عليهم بجملة من المزايا والخصائص التي حظي بها ولم ينلها غيره وهو يكشف بذلك عن نوع العلاقة التي كانت بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول:
((وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وانا و لد، يضمني الى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل))[12].
فكان ملاذه في محنته وجليل رزيته وعظيم مصيبته قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكن السؤال المطروح: من هم المستولون الذين منعوه التعبير عن الحزن واظهار الدمعة التي كانت المتنفس لنبي الله يعقوب على فراق يوسف (عليهما السلام) إلا الإمام علي (عليه السلام) فقد حبس دمعه، فلماذا ومن هم[13]؟
الهوامش:
[1] نهج البلاغة بتحقيق الشيخ قيس العطار: ص 381 ط العتبة العلوية.
[2] المصدر السابق.
[3] الكافي للكليني: ج1 ص 459؛ الامالي للمفيد: ص 283.
[4] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج3 ص 268.
[5] سنن الدارمي: ج1 ص 40.
[6] شعب الايمان: ج7 ص 239.
[7] سنن الدارمي: ج1 ص 40.
[8] الاستذكار: ج3 ص 80.
[9] الكافي: ج3 ص 220.
[10] صحيح البخاري، كتاب الإيمان: ج1 ص 9.
[11] صحيح البخاري، كتاب الإيمان: ج1 ص 9.
[12] نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 300.
[13]لمزيد من الاطلاع ينظر: فاطمة في نهج البلاغة مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته، للسيد نبي الحسني: ج3 ص 69 –73.