3- وصف السماء جغرافياً
بقلم: د. علي الفتال
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص
3- وصف السماء جغرافياً.
ليس غريباً على الإمام علي عليه السلام أن يصف خلق السماء ومنحنياتها ومعارجها ونجومها وكواكبها وسكانها وحفظتها؛ فهوالقائل: ((سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض)).
يقول الدكتور صبحي الصالح في مقدمته على تحقيق (نهج البلاغة):
(إن (نهج البلاغة) ليظم طائفة من خطب الوصف تبويء علياً ذروة لا تُسامى ببن عباقرة الوصافين في القديم والحديث، ذلك بأن علياً - كما تنطق نصوص (النهج) - قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، ولم تكد خطبة من خطبه تخلومن وصف دقيق، وتحليل نفاذ إلى بواطن الأمور؛ صوّر الحياة فأبدع، وشخّص الموت فأجزع، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طباع الرجال وأخلاق النساء، وقدّم للمنافقين (نماذج) شاخصة. وللأبرار أنماطاً حيّة، ولم يفلت من ريشته المصوّرة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس ولا مَلَك رحيم يوحي الخير ويلهم الرشاد).
فمن أوصافه - إذن- ما وصف به السماء وما تحتويه فقال - عليه السلام:
((…ثم أنشأ - سبحانه - فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تياره، متراكماً زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها بردّه، وسلَّطها على شَدِّهِ، وقرنها على حدّهِ. الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق، ثم أنشأ - سبحانه - ريحاً اعتقم (أي: جعلها عقيماً إلا للتحريك) مهبّها وأدام مربها وأعصف مجراها، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السِقاء، وعصفت به عصفها بالقضاء، تردُّ أوله إلى آخره، وساجيه إلى مائره، (أي: الساكن والمتحرك) حتى عبَّ عبابه، ورمى بالزبد ركابه، فرفعه في هواء منفهق (المفتوح الواسع) فسوّى منه سبع سماوات جعل سفلاها موجاً مكفوفاً (أي الممنوع من السيلان) وعُلياهن سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً بغير عمدٍ يدعمها، ولا دسار ينظمها، ثم زيّنها بزينة الكواكب وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجاً مستطيراً وقمراً منيراً. في فلكٍ دائر، وسقف سائر، ورقيمٍ مائر، (أي: لوح متحرك)، ثم فتق ما بين السماوات العلى، فملأهن أطواراً من ملائكته منهم سجود لا يركعون، ورُكّع لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نور العين، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيه، ألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة في السماء العليا أعناقهم، والخارجة إلى الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم (أي: دون العرش)، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين قن دونهم، حجُب العزّة وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدّونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر))([1]).
الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 254 - 256.