تاسعًا (هَيهات) في قوله عليه السلام ((وما للطُّلَقاءِ وأبناءِ الطُّلقاء, والتمييزَ بين المهاجرين الأوَّلين, وترتيبَ درجاتِهم, وتعريف طبقاتهم؟ هَيْهاتَ! لقد حنَّ قِدْحٌ ليس منها, وطَفِقَ يحكم فيها من عليه الحُكم لها))
بقلم: د. حيدر هادي الشيباني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فإن أسماء الأفعال من الموضوعات اللغوية التي شغلت عناية الكثيرين من علماء العربية، قدماء ومحدثين ومعاصرين، إذ لم يخلُ كتاب في العربية قدم من ذكرها.
والمراد بأسماء الأفعال المُراد بأسماء الأفعال أنَّها ألفاظ «وُضِعت لتدل على صيغ الأفعال، كما تدلُّ الأسماء على مسمياتها»([1]).
أمّا دلالتُها فقد ذكر كثير من اللغويين أنَّها تفيد المبالغة، فضلاً عن إفادتها الاتِّساع والاختصار، قال ابن السَّرَّاج: «فجميع هذه الأسماء التي سُميَ بها الفعل إنما أُريد بها المبالغة، ولولا ذلك لكانت الأفعال قد كفَت عنها»([2])، وأكد ذلك ابن جني مفسِّرًا، فقال: «وذلك أنك في المبالغة لا بد أن تترك موضعًا إلى موضع، إمّا لفظًا إلى لفظ، وإمّا جنسًا إلى جنس»([3])، وإلى هذا ذهب ابن يعيش([4])، والرضي الاسترابادي([5]).
من هنا نجدها وردت في كتاب نهج البلاغة، وهي على النحو الآتي:
تاسعًا: هَيْهات
اسمُ فعلٍ ذكره سيبويه في باب الظروف المُبهَمة غير المتمكنة الشبيهة بالأصوات([6]), وأكد ذلك المبرّد([7]).
أمّا ابن جني - صاحب الإبداع في علم الصَّرف - فقد حاول تفسير دلالته على الصوت, فرأى أن أصل (هيهات) هو (هَيْهَيَة) بزنة (فَعْلَلَة), قُلبت ياؤه الأخيرة ألفًا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها, كما أنَّ أصل: الزوزاة, والدوداة: الزَوْزَوَة, والدَوْدَوَة([8]) أي: أنَّ (هيهات) مصدرٌ نُقِل إلى أسماء الأفعال؛ لأنَّ بناء (فَعْللة) عند ابن جني مصدرٌ يدل على التكرار, إذ قال: «وذلك أنَّك تجد المصادر الرباعية المضعَّفة تأتي للتكرير, نحو: الزعزعة, والقلقلة,...»([9]), فكُرِّر اللفظ لتكرار المعنى([10]).
وابن جنّي قريب في تحليله من استعمال (هيهات) في التبعيد, لو أنَّه وضح لنا علاقة تكرار الصوت بمعنى البُعد. ولو جاز لنا الاستدلال بما نستعملُه اليوم من قولِنا: (هُوهُوه) في التبعيد والتعجيز لكان قريبًا من دلالة اسم الفعل (هيهات) على البعد, وإنْ كان كلُّ ذلك وهمًا وتخمينًا كما رأى الرضي([11]), ومما زاد معرفة أصله تعقيدًا أنه خاص بالعربية من دون اللغات الأُخر([12]).
ومن شواهد هذا البناء في نهج البلاغة ما جاء في كتاب له (عليه السلام) بعثه إلى معاوية جوابًا, قال فيه: «... وما للطُّلَقاءِ وأبناءِ الطُّلقاء, والتمييزَ بين المهاجرين الأوَّلين, وترتيبَ درجاتِهم, وتعريف طبقاتهم؟ هَيْهاتَ! لقد حنَّ قِدْحٌ ليس منها, وطَفِقَ يحكم فيها من عليه الحُكم لها»([13]).
فيما مرّ (هَيهات) وهو اسم فعل بمعنى: (بَعُدَ).
يُشير النص إلى إنكار الإمام (عليه السلام) على معاوية تعرضَه بالمفاضلة بين أعلام المهاجرين([14])؛ لأنَّ معاوية ليس أهلاً لمثل هذا الحكم؛ لصِغَر شأنه وحقارته في مثل هذه الأمور الكبار, إذ هو طليق وابن طليق([15]), والطلقاء: هم الذين أُسروا في الحرب ثم أُطلقوا, وكان منهم أبو سفيان ومعاوية([16]).
ولخطورة ما قام به معاوية من عملٍ ابتدأ الإمام (عليه السلام) النصَّ بالاستفهام الاستنكاري, مستعملاً صفات الذمِّ والتحقير, وقوله: (هَيْهات) يعزِّز هذا الاستحقار, في إشارة إلى استبعاد معاوية لمثل هذا الحكم([17]), ومما زاد هذا الاستبعاد تضمينُه (عليه السلام) عبارة: «حنَّ قِدْحٌ...», والقِدْح: أحد قِداح الميسر, والمعنى: أنَّه إذا كان القداح من غير جوهر إخوته, ثم أجاله المفيض خرج له صوت يخالف أصواتها؛ لأنَّه ليس من جملة القِداح, وهو مثل يُضربُ لمن يمدح قومًا ويطريهم ويفتخر بهم مع أنه ليس منهم([18]), وقد استعمله (عليه السلام) تمكينًا للمعنى وتثبيتًا له في نفس المخاطَب([19]), لأن للمثل تأثيرًا عجيبًا في قلوب السامعين للمعنى الذي يتركه في نفس المتلقي([20]).([21]).
الهوامش:
([1]) شرح المفصل: 4/25.
([2]) الأصول في النحو: 2/134.
([3]) الخصائص: 3/46.
([4]) ينظر: شرح المفصل: 4/25.
([5]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/89.
([6]) ينظر: كتاب سيبويه: 3/285و291-292و302.
([7]) ينظر: المقتضب: 3/182.
([8]) ينظر: الخصائص: 3/41, والزوزاة: مصدر زوزى الرجل, نصب ظهره وقارب الخطو, والدوداة: أثر الأرجوحة.
([9]) السابق: 2/153.
([10]) ينظر: السابق: 2/202.
([11]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/102.
([12]) ينظر: القاموس المقارن لألفاظ القرآن: 566 (هيهات).
([13]) شرح (ابن أبي الحديد): 15/181, وجاء هذا البناء في مواضع أُخر: 1/203, 213, 8/244.
([14]) ينظر: السابق: 15/191.
([15]) ينظر: شرح (البحراني): 4/437.
([16]) ينظر: نهج البلاغة, شرح الشيخ محمد عبده: 3/415.
([17]) ينظر: شرح (البحراني): 4/437.
([18]) ينظر: مجمع الأمثال, الميداني, تح: محمد محيي الدين عبد الحميد: 1/191 (المثل: 1018).
([19]) ينظر: الجملة العربية والمعنى: 135.
([20]) ينظر: أمثال القرآن, ابن القيم الجوزية, تح: د.موسى علوان:11.
[21] لمزيد من الاطلاع ينظر: ابنية المبالغة وأنماطها في نهج البلاغة، حيدر هادي الشيباني، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 142 - 145.