من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((غُمِّضَ)) في قوله عليه السلام: «وغُمِّضَ ومُدِّدَ وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ»

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((غُمِّضَ)) في قوله عليه السلام: «وغُمِّضَ ومُدِّدَ وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ»

8 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 28-10-2024

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل

الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:

امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:

غُمِّضَ

 تدلُّ مادَّة (غُمِّضَ) في اللُّغة على معانٍ، منها: إغلاق العينين بإطباق الجفنين. جاء في (العين): «الغَمْضُ: ما تطامن من الأَرض، وجمعه: غُمُوض... والغِمَاض: النَّوم، يُقال: ما ذُقت غُمْضاً، ولا غِمَاضاً. وما غَمَّضْتُ ولا أَغْمَضْتُ... والغَمْضَة: التَّغافل عن الأَشياء. ودار غامضة: غير شارعة. وغَمَضَتْ تَغْمُضُ غُمُوضاً، وأَمر غامض، غَمَضَ غُمُوْضاً. والغامض من الرِّجال: الفاتر عن الحملة... والغُموض: بطون الأَودية» [1].

وقال الجوهريّ: «الغامض من الأَرض: المطمئنُّ. وقد غَمَضَ المكان بالفتح يَغْمُضُ غُمُوضاً. وكذلك غَمُضَ بالضَّمِّ غُموضَةً وغَمَاضَةً. ومكان غَمْضٌ، والجمع غُمُوض وأغْمَاضٌ.... وهو أَشدُّ غوراً. والغامض من الكلام: خلاف الواضح، وقد غَمُضَ غُمُوْضَةً، وغَمَّضْتُهُ أَنا تغميضاً. وتغميض العين: إغماضُها... ويُقال: ما اكتحلت غَماضاً ولا غِماضاً ولا غُمضاً بالضَّمِّ، ولا تغميضاً ولا تَغْمَاضاً، أَيْ: ما نِمْتُ، وما اغتمضت عيناي» [2].
 فالغُمَّضُ، والغَمَاض، والغِماض، والتَّغماض، والتَّغميض، والإغماض: النَّوم، وأَغْمَضَ طَرْفَهُ عَنِّي، وَغَمَّضَهُ: أَغلقه. وأُغْمِضَ الميِّت، وغَمَّضْتَهُ، وغَمَّضَ عليه: أَغلق عينيه[3]. وأَغْمَضْتُ العينَ إغماضاً، وغمَّضْتُها تَغْمِيْضاً: أَطبقتُ الأَجفان[4].
وتطابقت دلالة الفعل (غُمِّضَ) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ أُورد بمعنى (إغلاق العين بإغماض الجفنين) مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو أَول الأَفعال الَّتي أَوردها أَمير المؤمنين (عليه السلام)  في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فَيُبَاشَر بأَنْ تُغْمَضَ عيناه، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرَعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».
وقد ورد في (أَحكام الاحتضار) في رسائل الفقهاء العمليَّة أَنــَّه يُستحبُّ للميِّت أَنْ تُغمضَ عيناه، ويُطبقَ فوه، ويُشدَّ لحياه [5].
وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال ــ هنا ــ مع الفعل (غُمِّض) في بنائه للمجهول، فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيز على الحدث، وهو استحباب إغماض عَيْنَي الميِّت، وهي حالة تدعو إلى التَّأَمُّل وإنعام النَّظر؛ فالإنسان لا يقوى على أَيِّ شيء، حتَّى إغلاق عينيه، ممَّا يدلُّ على عجزه، وانعدام قوَّة تأْثيره على جسده؛ فهو لا يملك ذلك ــ أَصلاً ــ. والآخر: أَنــَّه لا يُعْلَمُ مَنْ سيغلق عينيه، ولكنــَّه سيحدث.
ومن قمين القول إنَّ هذا الفعل ورد على زنة (فُعِّلَ)، وقد تقدَّم أَنَّ لهذه الصِّيغة معاني متعدِّدة، ذكرها العلماء، ومنها: الجَعْلُ[6]: وهو جَعْلُ مفعوله على ما هو عليه، نحو: سبحان الَّذي ضوَّء الأَضواء، وكوَّف الكوفة، وبصَّر البصرة، أَيْ: جعلها أَضواء، وكوفة، وبصرة. وهذا المعنى وارد مع الفعل (غُمِّضَ)، أَيْ: جُعِلَ الميِّتُ مُغمضَ العينين.
و(غُمِّض) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً، تقديره، هو، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (غُمِّض) معطوفة على جملة (وذهب بصره وسمعه).)([7]).

الهوامش:
[1]. العين: 1/346.
[2]. الصحاح في اللغة: 2/26. وينظر: تهذيب اللغة: 3/49، ومعجم مقاييس اللغة: 4/217، والمخصص: 3/482، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/401، ولسان العرب: 7/199، والقاموس المحيط: 2/196، وتاج العروس: 1/4687- 4689.
[3]. ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 2/401.
[4]. ينظر: المصباح النير: 7/82.
[5]. ينظر: منهاج الصالحين (للخوئي): 72، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 91، ومنهج الصالحين (للسيد الصدر): 67، وأحكام العبادات (للمدرسي): 133، وسبل السلام (لليعقوبي): 104.
[6]. ينظر: الفعل (فَرَّدتُه) من الكتاب.
([7]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص199-201.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3738 Seconds