أثر نهج البلاغة في كتب اللغة, شرح الرضي أنموذجاً

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

أثر نهج البلاغة في كتب اللغة, شرح الرضي أنموذجاً

7K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-03-2017

أثر نهج البلاغة في كتب اللغة, شرح الرضي أنموذجاً

اعتمد اللغويون في وضع قواعدهم على الكلام العربي القديم, فهو الأساس الأول الذي بُني عليه النحو العربي وغيره من علوم اللغة بمختلف فروعها, لذا كان تقعيد القواعد على ما جاء من فصيح اللغة العربية شعرا ونثرا, ووضعوا لذلك مقياسا  ومدة يستشهد بما قيل فيها, إذ كان لما قيل قبل الإسلام وبعده بفترة وجيزة الاهتمام الأكبر؛ لأنّها الفترة المرادفة لنزول القرآن الكريم, الذي بغلت فيها اللغة أوجَّها في البلاغة والفصاحة فجاء القرآن بلغة أعجزهم بها, على ما لديهم من هذه الفصاحة والبلاغة.

وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) من أفصح الفصيح وأبلغ البليغ فلغته لغة رسول الله (صلى الله عليه وآله), فكان كلامه موضع استشهاد في العلوم اللغوية, فنجد هذا في متون كتبهم ومنها كتاب شرح الرضي على كافية ابن الحاجب, فقد ورد في أكثر من موضع كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) ومنها:

قوله (عليه السلام): (لَشَدَّ ما تشطرا ضرعيها)([1]) وهو مأخوذ من الخطبة الشقشقية  التي يتحدث فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أمر الخلافة وقد استشهد به الرضي في موضع لا يجيء من (شديد) فعل ثلاثي وإنّما يقال : (اشتدَّ فهو شديد) كما قالوا (افتقرَ فهو فقير, وارتفع فهو رفيع) ولا يجيء منها ثلاثي على (فَعُل)([2]), واختلفوا في دلالة (فَعُل) فهي للمدح والذم والتعجب, وقد حمل النحاة قوله (لَشدَّ) على هذه الصيغة ولها دلالة على المدح والذم والتعجب, (قال الأخفش والمبرد: يجري فعُل المضموم العين في المدح والذم مجرى فعل الدال على التعجب، فلا يلزم فاعله "أل" أو الإضمار، وهو الصحيح)([3]), لذا كان استعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الصيغة التي تحمل معانٍ كثيرة أولها الذم, وهو ذمُّ ما قام به هذان الشخصان من عمل يخالف ما أُمِرا به من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله), ويحمل أيضاً التعجب أي إنَّ الإمام (عليه السلام) يتعجب مما قاما به مع علمهم بذنبهم, لذا جمع أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه اللفظة هنا دلالتها على الذمِّ والتعجب في استعمال واحد.

      ويظهر من هذه الجملة حجم المؤامرة التي حاكها هؤلاء, فهم تقاسموا المناصب فيما بينهم, وتشاطروها كضرع الناقة وهي صورة تشبيهية أراد منها أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يبين أركان المؤامرة وهم: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وخالد بن الوليد, فهم كضرع الناقة الذي تنشطر إلى أربعة مراضع أخذ كل واحد منهم نصيبه منها, لذا لم يستطع أبو بكر عزل خالد وإقامة الحد عليه في قضيته عندما قتل مالك وزنى بزوجته؛ لأنّه شريك معه في هذا الأمر ويتمتع بهذا المنصب باتفاق مسبق. فأصبح الثنائي في أن يكون أبو بكر حاكم وخالد قائد الجيش ومن ثم يذهب الحكم لعمر ويكون أبو عبيدة هو قائد الجيش. فهذا الذي قصده الإمام (عليه السلام) بتشاطرهم الضرع.

ومما ورد من مواضع الاستشهاد بكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (كاشَفْتُكَ الْغِطَاءاتِ)([4]), فقوله (كاشفتك) استشهد به الرضي في معنى (فاعَلَ) التي تدل على التشارك في الأمر([5]) وهي من دلالاتها فقد ذكر اللغويون أنها: (لنسبةِ أصلهِ إلى أحدِ الأمرينِ متعلقاً بالآخَرِ للمشاركةِ صريحاً، فيجيءُ العكسُ ضِمْناً، نحو ضَارَبْتُهُ وشَاركْتُهُ، ومِنْ ثَمَّ جاءَ غيرُ المتعدي متعدياً، نحو: كَارَمْتُهُ، وشَاعَرْتُهُ، والمتعدِّي إلى واحدٍ مغاير للمُفَاعَلِ إلى اثنين، نحو: جَاذَبْتُهُ الثوْبَ، بخلافِ شَاتَمْتُهُ)([6]), فهذه الصيغة تنقل الفعل من حالة اللزوم إلى التعدي ومن التعدي لمفعول إلى التعدي لمفعولين، كهمزة التعدية التي تأتي في أول الفعل.

والشاهد الثالث الذي ذكره الرضي من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو صرفي فقد تمثل بقوله: (حتى صرتُ أُقْرَنُ إِلى هذه النظائر)([7])، وذلك في قوله: (قيل في قَدُوم وهو مذكر: قَدَائم ، تشبيهاً بالمؤنث نحو ذَنُوب، والأصل الْقُدُم، كما جاء في نظير نَظَائر، وهو شاذ، قال علي رضي الله تعالى عنه: حتى صرتُ أُقْرَنُ إِلى هذه النظائر)([8]). فهي من نظير, وفعيل للمذكر الخالي من التاء لا تجمع على فعائل إلا نادرا([9]), وربما كان استعمال الإمام (عليه السلام) هذا الجمع الشاذ القليل دلالة على شذوذ هؤلاء النظائر الذين ذكرهم وقلة أمثالهم من الناس. فكيف يقرن أمير المؤمنين (عليه السلام) بهؤلاء؟ لذا يرفض أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يقاس بهم.

هذا ما استشهد به الرضي الاستراباذي من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرحه على شافية ابن الحاجب في النحو الصرف, وهو قليل مقارنة بكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يزخر بكل العلوم لكنهم عكفوا عن الاستشهاد به خوفا من السلطان آنذاك أو لأسباب تمس عقيدتهم. لكن نرى الرضي يستشهد بأكثر النصوص التي تمس العقيدة, وهي التي قيلت في الخطبة الشقشقية.

كان الأجدر بعلماء اللغة الإفادة من كلام أمير المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام) في كل علم من علومها فكلامهم حجة لا غبار عليها فهم أفصح الناس.

 

([1]) نهج البلاغة, تحقيق قيس بهجت العطار: 85.

([2]) ينظر: شرح الرضي على الشافية: 1/ 78.

([3]) شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو: 2/ 86.

([4]) نهج البلاغة: 527.

 ([5])ينظر: شرح الرضي على الشافية: 1/ 98.

([6]) المفتاح في الصرف: 49, وينظر: الكُناش في فني النحو والصرف: 2/63، وينظر: شرح التسهيل المسمى (تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد): 8/ 3758.

([7]) نهج البلاغة: 86.

([8]) شرح الرضي على الشافية: 2/ 134.

([9]) ينظر: شرح الكافية الشافية للجياني: 1/ 101, وينظر: شرح التسهيل: 9/ 4802.

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2712 Seconds