بقلم: محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان
((الحمد لله وإن أتى الدّهرُ بالخطب الفادحِ، والحدثِ الجليلِ، وأشهدُ أن لا إله إلّا الله ليس معه إله غيرهُ وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله))
أما بعد:
قال أمير المؤمنين عليه السلام ((اعتصموا بالذمم في أوتادها)).
يبين عليه السلام في هذه الحكمة أمراً يحتاج إليه غالب الناس. فإن الإنسان محتاج إلى سند وقوة وضمان يرتكز عليه عند الحاجة، وكانت هذه الأمور كثيرة شائعة في زمنه ولم تقِل أهميتها في زمننا إلا نسبياً؛ للتفكك الأسري الحاصل في بعض المجتمعات خصوصاً المتمدنة والمنشغفة بحب التطور السريع المفاجئ والتي تحسب كل دعوة إلى التروي والتمهل وأداً لفكرتهم وعرقلة لخطواتهم.
وهذه الحاجة تحتم على الفرد أو المجتمع أن يتكتل ويجتمع مع الآخرين. وهؤلاء -الآخرين- ليسوا على نسق واحد ولا نسج متماسك، فقد يلتجئ الإنسان إلى من لا عهد عنده ولا صدق ولا وفاء ولا إيمان بكل هذه المبادئ فيخسر نفسه؛ لأنه إما أن يفشل في محاولته أو يؤثر ذاك الطرف فيه، وفي كلتا الحالتين يترك الأمر ثقلاً على نفسيته وتوجهه الفكري.
فهي دعوة إلى اختيار الجهة المناسبة ليكون الاستناد إلى ركن وثيق ومأوى أمين، وذلك محافظة على الأخلاق الصحيحة والمبادئ الراسخة في النفوس لئلا تتأثر بالاحتكاك وخصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يفرضه الالتجاء والتعاهد من تبعية فكرية، ثقافية، سياسية، اجتماعية، وحتى اقتصادية فيكون المعاهد المعتصم تحت الشعاع لا يستطيع التغيير أو التغير. فنخسر المبادئ الصحيحة وهذا أمر صعب جداً لأنه يؤدي إلى انهيار في الأخلاق مما يعني التنازل وعدم الأهمية لما نشأنا عليه من أخلاق صحيحة طيبة.
وغالباً ما يحتاج إلى التعاهد الغريب قليلُ العدة والعدد، ضعيفُ الجانب وإن كثر عدده أو عُدته، فإذا لم تلاحق هؤلاء التعاليم الإسلامية فيعني ذلك ضياعهم خصوصاً وأنهم يعانون من أزمات نفسية تجعلهم مهزوزي الشخصية قليلي الإرادة فينصاعون لما يفرض عليهم من شروط فيكون المقابل للحماية -أحياناً- هو التخلي عن الأخلاق والمبادئ وهو أمر خطير جداً يخشى من عواقبه الوخيمة على المسلمين كافة فينبغي حسن الاختيار والاعتصام بأهل الصدق والأمانة والوفاء لو دعت الحاجة الملحة بحكم الظروف إلى ذلك الاختبار.
كما يمكن ان نستشف من الحكمة بعض ما ينفع في هذه المرحلة التي كثر الاغتراب فيها، لتبرز قضايا ما كانت على الساحة بشكلها الواضح، ومن تلك القضايا الالتزام بقانون بلد اللجوء والإقامة حيث يفترض قانونياً عندما يمنح حق الدخول والإقامة لشخص أن يحترم القانون ويطبقه ما دام في الحدود الدولية للبلد وبعكسه فيتعرض للمساءلة أو المعاقبة، فيلاحظ أن ما قاله الإمام عليه السلام يمكن تطبيقه على هذا المورد الجديد لنتعرف على أن الإنسان ليس له أن يتعدى المسموح به؛ لأن تأشيرة الدخول أو اللجوء أو بطاقة الإقامة ونحو ذلك من الوثائق الرسمية الممنوحة تساوي الذمم التي عبر بها عليه السلام، فلا بد لمن يريد الإفادة منها أن يكون دقيقاً في تعامله معها فلا يتجاوز ولا يزور ولا يخالف، ولو لم يرق له الحال فيمكنه الاستبدال ببلد آخر، وما عدا الالتزام فيعد ناقضا للذمة وهو مالا يجوز ولا يسوغ شرعاً وقانوناً وذوقاً[4].
الهوامش:
[1] اعتصم من الشر والمكروه: التجأ وامتنع. المنجد ص510. مادة (عصم).
[2] الذمم جمع الذمّة: الأمان والعهد. الضمان... ويقال أنت في ذمة الله أي في كنفه وجواره. المنجد ص237. مادة (ذمّ).
[3] أوتاد جمع الوتد: ما رُزّ -أي تثبّت- في الحائط أو الأرض من خشب ونحوه. المنجد ص885. مادة (وتد).
[4] لمزيد من الاطلاع ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، ج1، ص83-85.