الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) تسمى بالقاصعة ومنها قال (عليه السلام) في الاعتبار بالأمم

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) تسمى بالقاصعة ومنها قال (عليه السلام) في الاعتبار بالأمم

538 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 22-07-2024

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
فَاعْتَبِرُوا([1]) بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتَّتِهِمْ، وَتَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ ، يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشَّيحِ، وَمَهَافِي الرِّيحِ، وَنَكَدِ الْمَعَاشِ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَوَبَرٍ، أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لَا يَأْوُونَ إِلَىٰ جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزَّهَا. فَالْأَحْوَالُ مُصْطَرِبَةٌ، وَالْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةً، فِي بَلَاءِ أَزْلٍ ، وَأَطْبَاقِ جَهْلٍ! مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ، وَأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ)([2]).

شرح الألفاظ الغريبة:
الاعتدال: هنا التناسب الاشتباه هنا التشابه: يحتازونهم: يقبضونهم عن الأراضي الخصبة: المهافي: المواضع التي تهفو فيها الرياح أي تهب: النكد: بالتحريك - أي الشدة والعسر: الدبر: - بالتحريك - القرحة في ظهر الدابة: الوبر: شعر الجمال، والمراد أنهم رعاة؛ لا يأوون: لم يكن فيهم داع إلى الحق فيأووا إليه ويعتصموا بمناصرة دعوته؛ بلاء أزل: على الإضافة والأزل: - بالفتح - الشدة؛ موءودة: من وأد بنته - كوعد - أي دفنها وهي حية؛ شن الغارة: صبها في كل وجه([3]).

الشرح:
قوله: «فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وإسرائيل عليهم السلام ... إلى قوله: ضفاة: أمر لهم باعتبار أخص، وولد إسماعيل إشارة إلى العرب من آل قحطان وآل معد، ومن بني إسحاق أولاد روم بن عيص بن إسحاق، وبنو إسرائيل وهـو يعقوب بن إسحاق.

فأما حال تشتتهم وتفرقهم واستيلاء الأكاسرة والقياصرة عليهم وفعلهم بهم ما ذكر فتفرق كلمة العرب قبل ظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر ظاهر معلوم لكل من طالع كتب السير، وبسبب ذلك كانت الأكاسرة أرباباً لهم يحتازونهم ويبعدونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى البادية.

وأما حال بني إسحاق وإسرائيل في ذلك فنحو ما جرى لأولاد روم بن عيص من اختلاف النسطوريه واليعقوبية والملكاتية حتى كان ذلك سبباً لضعفهم واستيلاء القياصرة عليهم في الروم وعلى بني إسرائيل في الشام وإزعاج بخت نصر لهم عن بيت المقدس حتى غزاهم المرة الثانية كما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} الآية ([4]). وقد كان غزاهم مرة أولى حين أحدثوا وغيروا فرغبوا إلى الله تعالى وتابوا فرده عنهم وهي المرة الأولى التي حكى الله تعالى بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} الآية ([5]) ثم أحدثوا بعد ذلك فبعث الله إليهم أرميا فقام فيهم بوحي الله فضربوه وقيدوه وسجنوه فغضب الله عليهم فبعث إليهم عند ذلك بخت نصر فقتل منهم وصلب وأحرق وجدع وباع ذراريهم ونسائهم وسارت منهم طائفة إلى مصر ولجأوا إلى ملكها فسار إليه بخت نصر فأسره وأسر بني إسرائيل، والذين فروا منهم ارتحلوا إلى حدود المدينة كيهود خيبر وبني قريضة والنضير ووادي قرى وقينقاع . إذا عرفت ذلك فنقول: إنه عليه السلام أمر باعتبار حالهم وتأمل أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفعل أعدائهم ما كانوا يفعلون كيف فرج الله عنهم من تلك الشدائد بظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم نبياً.
واعلم أن غايته عليه السلام عن أمره باعتبار حال المؤمنين من الأمم الماضية قبلهم اقتدائهم في الصبر على المكاره ولزوم الألفة والاجتماع: مع ذلك وانتظار الفرج به. وقوله: ((فما أشد اعتدال الأحوال)) أي تساويها، وأراد أن أحوالكم الشبه والمساواة لأحوالهم، وكذلك ما أقرب اشتباه الأمثال: أي إن أحوالهم شديدة المماثلة لأحوالهم لأنكم أمثالهم. وهو إشارة إلى وجه علة الاعتبار فإنهم إذا كانوا أمثالهم واعتدلت أحوالهم وتشابهت أمورهم وجب بحالهم ولذلك أتى بالفاء للتعليل. وقوله: ((تأملوا أمرهم في حال تشتهم ...)) إلى آخر الكلام: إشارة إلى حال شدتهم ورخائهم لتنقل أذهان السامعين إلى إثبات تلك الحال لأنفسهم، فالماضون أصل ذلك الاعتبار، والسامعون فرعه، وحكم الأصل أحوالهم الخيرية والشرية وعلة ذلك الحكم كونهم أمثالاً لهم.

وقوله: ((ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم)): أي مالكون لأمورهم يحتازونهم: أي كانت القياصرة يحتازون بني إسرائيل وبني إسحاق، والأكاسرة يحتازون بني إسرائيل ويمنعونهم من أعمال العراق فصار الجميع مطروداً للجميع عن خضرة الآفاق وجنان الشام وبحر العراق، وأراد دجلة والفرات.
وقوله: ((إلى منابت الشيح ومها في الريح)): كنايتان عن البرية وظاهر أنها محل نكد العيش وضيقه كما وبخهم الله بوصف معاشهم في الفصول السابقة ويختص الأكاسرة - وهو جمع كسرى - بملوك الفرس والقياصرة بملوك الروم وهو جمع على غير قياس. وكنى بالدبر والوبر عن الجمال وفيه إيماء إلى فقرهم وضيق معاشهم لأن دبر الجمال واستعمال الوبر وأكله بالدم من لوازم الفقر وضيق الحال، وعلى الرواية الأخرى فالدبر كناية عن الفقر أيضاً، وظاهر أنهم أذل الأمم داراً لأن أهل البادية ليسوا أصحاب حصون وقلاع يعتصم بها وإن كان لبعضهم حصون فعساه يحميهم عن أمثالهم فيما يجري بينهم من الغارات، وليس ذلك مما يدفع عدواً ذا قوة أو يحتمل حصاراً.
 وقوله: ((وأجد بهم قراراً)): أي مستقراً، إذ كانت البادية لا تقاس إلى المدن في الخصب، واستعار لفظ الجناح لما ينهض به دعوتهم ويقوى إذا دعوا، وكنى بذلك عن كونهم لا يأوون إلى من يجيب دعوتهم فيعتصمون به، وكذلك استعار لفظ الظل لما يستلزمه الألفة من التعاون والتعاضد والتناصر، ووجه المشابهة هو ما يستلزمه هذه الأمور من الراحة والسلامة من حرارة نار العدو والحرب كما يستلزمه الظل من الراحة من حر الشمس.

وقوله: ((فالأحوال مضطربة)): شرح لحالهم يومئذ وكونهم على غير نظام، وكنى باختلاف أيديهم عن عدم اتفاقهم على التناصر وبتفرق كلمتهم عن عدم ألفتهم واجتماعهم على مصالحهم، وإضافة بلاء إلى الأزل بمعنى من، وكذلك إضافة أطباق. وقد علمت أن للجهل صفات ودركات متراكم بعضها فوق بعض أولاها عدم العلم بالحق، وفوقها الاعتقاد بغير الحق، وفوقها اعتقاد شبهة يقوي ذلك ويعضده مع تجويز نقيضه، وفوقها اعتقاد تلك الشبهة جزماً.
وفي نسخة الرضي (رحمه الله)، وإطباق – بكسر- الهمزة - على أنه مصدر والمعنى: وجهل مطبق عليهم.
وقوله : ((من بنات)): تفصيل للوازم ذلك الجهل وذكر منها أربعة أنواع: أحدها : وءد البنات، وأشار إليه القرآن الكريم : {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ }([6])  قيل كان ذلك في بني تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل ، قالوا : والسبب في ذلك أن رسول الله دعا عليهم فقال : اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم، كانوا يسمونه العلهز فوءدوا البنات لإملاقهم وفقرهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}([7]).
وقال قوم: بل كان وعدهم للبنات أنفة، وذلك أن تميماً منعت النعمان الإمارة سنة من السنين فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر وجل من معه من بكر بن وائل فاستاق النعم وسبا الذراري، فوفدت بنو تميم إلى النعمان فاستعطفوه فرق لهم وأعاد عليهم السبي، وقال: كل امرأة اختارت أباها ردّت إليه وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلهن اخترن أباهن إلا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها، فنذر قيس ابن عاصم التميمي أنه لا تولد له بنت إلا وعدها؛ ففعل ذلك، ثم اقتدى به كثير من بني تميم.

الثاني: عبادة الأصنام، وقد كان لكل قبيلة صنم يعبدونه فكان لهذيل سواع، ولبني كلب ود، والمذحج يغوث، وكان بدومة الجندل، ولذي الكلاع نسر، ولهمدان يعوق، ولثقيف اللات والعزى، ولقريش وبني كنانة والأوس والخزرج مناة، وكان هبل على الكعبة، وإساف ونائلة كانا على الصفا والمروة، ومن نوادر جهلهم المشهورة أن بني حنيفة اتخذوا في الجاهلية صناً من خبش([8]) فعبدوه دهراً طويلاً، ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقال بعضهم في ذلك:
أكلت حنيفة ربها               زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم            سوء العواقب والتباعة

 الثالث: قطع أرحامهم وقد كان أحدهم يقتل أباه وأخاه عند الحمية لأدنى سبب كما هو معلوم من حالهم.
الرابع: الغارات والحروب كيوم ذي قار، وكأيام حرب بكر وتغلب في بني وائل، وكحرب داحس وغير ذلك من الأيام المشهورة، ومقاماتهم في الحروب والغارات أكثر من أن تحصر وكل ذلك من لوازم الجهل([9])).)([10]).

الهوامش:
([1]) في شرح نهج البلاغة لابن ميثم ونهج الشيخ محمد عبده: (واعتبروا).
([2]) نهج البلاغة لصبحي صالح: ۲۹۷ ضمن الخطبة رقم ۱۹۲، ونهج البلاغة للشيخ العطار: ۳۹۷ ضمن الخطبة رقم ۱۹۲، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم ٤: ٢٨٨ - ٢٨٩ / ضمن الخطبة رقم ٢٣٤، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده ١: ٤١٢ - ٠٤١٣
([3]) شرح الألفاظ الغريبة: ٦٥٤ - ٦٥٥.
([4]) الإسراء: 7.
([5]) الإسراء: ٥.
([6]) التكوير: ۸ و ۹.
([7]) الإسراء: ٣١.
([8]) خبش الشيء: جمعه من هنا وههنا، وخباشات العيش: ما يتناول من طعام أو نحوه. (لسان العرب 4: 15) مادة: خبش.
([9]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 297-301/ شرح الخطبة رقم 234.
([10]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 244-250.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2534 Seconds