بقلم: د. حسام عدنان الياسري.
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.
وبعد:
القَمْص قَمْصُ البَعِيْرِ، وذلك إذا رفعَ يديه ثُمّ طَرَحهما معاً، كأنه يَعْجِن برجليه([1]). واستعملت لفظة (قَمَصَت) مرة واحدة في نهج البلاغة([2])؛ للدلالة على عدم استقرار الدنيا ودوامها على حال. وجاء هذا المعنى في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يتحدث فيه عن ذمِّ الدنيا، و التَّنْفِيْر منها. إذ يقول:((فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا، رَدِغٌ مَشْرَعُهَا، يُونِقُ مَنْظَرُهَا... حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا([3])، وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا، قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا، وَقَنَصَتْ([4]) بِأَحْبُلِهَا))([5]).يشَبّه الإمام الدنيا في كلامه هذا بالدَّابّة غير الذَّلول، وهي الدابة الصَّعْبَة التي لا يَأمَن راكبها على نفسه منها، لعدم استقرارها، فما إن يقترب منها حتى تَنْفِر منه، وتعلوه بأيْديِهَا ثم ضاربة بهما الأرض. وهذا دليل على عدم ثبات أحوال الدنيا، ودوامها على حال. فما تَلْبَث أن تُوقع راكبها، وتَقْمُص بوجهه. فاختار الإمام (عليه السلام) هذا الوصف من أوصاف البعير لتشبيه الدنيا به من هذا الوجه، فحذف المشبّه به، وهو الدنيا، وأبقى لازماً من لوازمه، وهو القَمْص، من باب الاستعارة المكنية. كأن الدنيا تَقْمُص بوجه الإنسان كما يقمص البعير بيديه عندما يضرب بهما الارض. وأصل (القَمْص) في اللغة هو الوَثْب وعدم القَرارِ في مكان واحد ([6]).ثم غلب هذا الوصف - فيما يبدو - على الدّواب التي لايَقِر لها قرار، والتي تمتاز بكثرة حركة أيديها. ويَنطبق ذلك على الإبل والخَيْل.فيقال (القَامِصَةُ) الدّابَّة النَّافرَة التي تضرب بِرِجْلَيها([7]). وقمصت الناقة، إذا نشطت([8]). وهذه من صفات الناقة النّفور. ويقال: ((قمص الفَرَسُ قَمْصاً وقماصاً، وهو أن يَنْفَر ويَرْفع يديه ويَطْرحها))([9]). والقَمِيْصُ البِرْذَون من الخَيْل الكثير القُماص والوثوب([10]).والمُشَبّه به في كلام الإمام هو (البَعِيْر)، أو (الفَرَس)، لأنهما يمتازان بهذه الصِفَة، وهي الوثوب وعدم الثبات، ولاسيما إذا كانا من الدواب النِّفار، وهذا المعنى يقرِّب من علاقة المُشابهة بين (الدُّنيا)، وهي (المُشَبَّه)، وبين (البَعير والفَرَس)، وهما المُشَبّه به - كما يبدو - من سياق الاستعارة الذي صوّر فيه أمير المؤمنين الدنيا بهيئة بَعِير نفور، أو فَرس صَعب كثير الوُثُوب، ما يلبث راكبه أنْ يسقط ما أن يعتلي صهوته. ويحتمل تعبير الإمام معنى آخر يمكن الوصول اليه من مفردة (قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا)، كأن الدنيا تَمْتَنِع عن الإنسان، وتَتَخَلّى عنه عند حضور أجله، كأنها تدفعه برجلها مولية عنه مثلما تفعل الدَّابّة ذلك([11]). وهذا المعنى يعزز الدلالة التي أضفتها مفردة (قَمَصَت) على تَغَيّر الدنيا وزوالها عن الإنسان وعدم دوامها له([12]). ويلحظ في تعبير الإمام (عليه السلام): ((قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا...)) أنّه جمع مفردة (أَرْجُل)، في حين أنّ (قَمْص الدَّابَّة) لايكون إلّا بِيَدَيْها دون رِجْلَيْهَا، لأنها تَعْجن بالرِّجْلَينِ حينما تَضرب بهما الأرْض وتَقْمص باليَدَين معاً([13]). وكان المناسب لهذا الحال أن يقال: (وقَمَصَت بِيَدَيْهَا). غير أنّه (عليه السلام) جمع - مُغَلِّباً - الأرجل على الايدي. وقد تَنَبّه الشُرَّاح إلى هذا التعبير، فذكروا أنه إمّا أنْ يكون قد عَبّر عن المُثَنّى بلفظ الجمع ([14])، أو لأنّه (عليه السلام) غَلّبَ الأرْجل على اليَدَيْن، فَعَبّر بالجمع عنهما من جهة غَلَبَة الأرجل على الايدي، فَسَمّاها كلها أرجلاً ([15]). كأنه اعتبر الرِّجْلَيْن أعمّ من الأيدي.وهما فرع عنهما([16]). وذهب بعض الشُّرَّاح إلى أنّ استعمال لفظ (الأَرْجل) في هذا السياق جاء لاعتبار لفظ (القَمْص)؛ لأن القَمْص بالرِّجلين أنْسَب([17]).ويُفْهَم من هذا الكلام أنّ القَمْص لايكون إلا بِرِجْلَيِ الدَّابَّة. وهذا خلاف ماذكره اللغويون من أنّ قَمْص البَعِير، والفَرسِ يكون باليَدَيْنِ([18]). ويبدو أنّ التعبير بلفظ الجمع عن (الأَرْجل) وتغليبها على الايدي، أمر مرتبط بالمعنى الذي يقصد اليه الإمام، كأنه يريد أنّ الدُّنيا ضَرَّاء مؤذية، لايستقيم لها حال مع الإنسان، وإنها تستعمل جميع قواها في اسقاطه وأذاه، فاستعمل (الأرجل) بصيغة الجمع بوصفها الواسطة للسعي والتوجه إلى مرادها، وهي - هنا - السبيل الذي يقود الدنيا إلى الايقاع بالإنسان. وأيذائه.كأنه (عليه السلام) أراد الاشارة إلى أنّ المغتر بالدنيا، الذي يقْبِل عليها بِقَدَميه، لابُدَّ أن تصِيبه الدنيا بأَرجلها وتؤذيه. وهناك أمر آخر يبدو في هذا التعبير، فإن الأرْجل في الدَّابّة من أهم وسائل الضرب عندها، فبها تَضْرِب من تَنْفُر منه، وبها تُسرع أيضاً. وهذا الامر بيَّن في الإنسان أيضاً، الذي يستعمل رِجْلَيْه في الدفاع عن نفسه، وربما يضرب مَنْ يريد أنْ يدفعه عنه بهما، كأنّه يمنعه من ملازمته له. ولهذا استعمل (عليه السلام) تعبير (قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا) لتحقيق هذهِ المعاني التي يوحيها قوله المتقدم في النص، من الاشارة إلى ترك الدنيا الناسَ، والتّخَلِّي عنهم بسرعة كأنهم تضربهم بأرجُلِها)([19]).
الهوامش:
([1]) ينظر: جمهرة اللغة (قمص):2/ 894، مقاييس اللغة (قمص):5/ 27.
([2]) ينظر: المعجم المفهرس لالفاظ نهج البلاغة: 381.
([3]) النفر التفرق والابتعاد. ينظر: العين (نفر):8/ 267.
([4]) القنص الصيد. ينظر: لسان العرب (قنص):7/83.
([5]) نهج البلاغة: خ / 83: 122. وقد أود اللغويون كلمة الإمام المتقدمة. ينظر: النهاية في غريب الحديث:4/108 و 4/ 112، ولسان العرب (قمص):7/83، و(قنص): 7/83.
([6]) ينظر: لسان العرب (قمص):7/83.
([7]) ينظر: النهاية في غريب الحديث:4/108، ولسان العرب (قمص):7/83.
([8]) ينظر: اساس البلاغة (قمص): 1/ 522.
([9]) ينظر: النهاية في غريب الحديث:4/108، ولسان العرب (قمص):7/83.
([10]) ينظر: لسان العرب (قمص):7/83.
([11]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 2/ 377.
([12]) ينظر: الديباج الوضي:2 / 572.
([13]) ينظر: جمهرة اللغة (قمص):2/ 894، مقاييس اللغة (قمص):5/ 27.
([14]) ينظر: شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 6/ 195، 196.
([15]) نفسه: 6/ 196.
([16]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 2/ 377.
([17]) نفسه.
([18]) ينظر: المصباح المنير (قمص):2/516، ولسان العرب (قمص):7/82.
([19])لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 134-137.