ثلاثون ألفًا.. ضحايا معركة الجمل

مقالات وبحوث

ثلاثون ألفًا.. ضحايا معركة الجمل

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 06-01-2020

عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
كانت النتيجة الطبيعيَّة لسياسة عثمان بن عفَّان الذي أباح اقتصاد الدَّولة الإسلاميَّة لأقربائه ومحبيه أن تثور عليه عامَّة النَّاس المحرومة، الذين سُلبت حقوقهم بواسطة سياسة الحاكم الأموي الأول، وبعد مقتل عثمان بن عفان في المدينة المنورة آلت الأمور إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بعد إلحاحٍ شديدٍ من المسلمين، وكان المشهد يُنبئ بفتنٍ مقبلة ومصائب محتشدة، وقد أوضح أمير المؤمنين (عليه السلام) بعضًا من ملامح ذلك المشهد بقوله: ((دَعُوني وَالْـتَمِسُوا غَيْرِي; فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ; لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الاْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْـمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ; وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً))([1]) . ومع هذا الكلام الصريح من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلَّا أنَّ النَّاس انثالوا عليه يُطالبونه بأن يكون حاكمًا عليهم، وقد وصف هذا المشهد بقوله: ((فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ إليَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِب، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ))([2]).
وبعد أن تمَّت البيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت بيعة عامَّة شارك بها عامَّة المسلمين إلَّا من كان في قلبه مرض النفاق، وقد أبان عن سياسته الماليَّة، وكذلك سياسته الإدارية، وكليهما لم تعجب أصحاب الثروات والنفوذ؛ لأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ساوى بين الجميع واتَّخذ من ميزان العدالة منهجًا له .
وهذه السياسة وإن كانت منصفة للشريحة العظمى من المجتمع إلَّا أنها لم تكن مرضية أبداً لأصحاب المصالح والمطامع وطلَّاب الدنيا، فصاروا يتشاورون فيما بينهم في إيجاد وسيلةً يخرجون بها من حكم العدل هذا، وقد وجدوا لهم في قميص عثمان الذي ساهموا في قتله بالأمس وسيلة ومنفذاً للوصول إلى غاياتهم في السلطة والتحكُّم برقاب الناس، فانبرى الزبير وطلحة وعائشة ومعاوية ينادون بالثأر لدم عثمان، وتناسوا أنَّهم ساهموا جميعاً في قتله .
فخرج الزبير وطلحة ومعهما عائشة إلى البصرة يطلبون الثأر لدم عثمان، وكأنَّ عثمان قُتِل بالبصرة أو أنَّ أهل البصرة هم من قتلوه، وتناسوا أنَّ عثمان إنَّما قُتِل بالمدينة وأنَّ قتلته ما زالوا فيها، وأنَّهم من أبرز المشاركين في قتله، ثمَّ راحوا يؤلِّبون الناس للثورة على الإمام علي (عليه السلام)، ويرسلون إلى رؤساء القبائل يطلبون منهم النصرة في حربهم للإمام علي (عليه السلام)، وقد استغلُّوا انضمام عائشة معهم فاستمالوا قلوب الناس بطلبهم النصرة لزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمِّ المؤمنين، وقد استجاب لهم جمع غفير من أصحاب المصالح والرعاء . ولمَّا بلغ الإمام علي (عليه السلام) خروج طلحة والزبير خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلَّى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمَّ قال: ((أمَّا بعد ، فقد بلغني مسير هذين الرجلين ، واستخفافهما حبيس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستفزازهما أبناء الطلقاء، وتلبيسهما على الناس بدم عثمان، وهما ألَّبا عليه، وفعلا به الأفاعيل، وخرجا ليضربا الناس بعضهم ببعض، اللهمَّ فاكفِ المسلمين مؤنتهما ، واجزهما الجوازي))([3])
وما كان من أمر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلَّا أن حاججهم وبرهن لهم بطلان دعواهم، فهو لم يُرد الخلافة وإنَّما الناس أرادوه، وهم كانوا من ضمن من بايع مريدين غير مكرهين، ولذلك وجب عليهم إطاعته، وفي ذلك يقول (عليه السلام):
 ((أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتُما، وَإِنْ كَتَمْتُما، أَنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي، وَلَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي، وَإِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَبَايَعَنِي، وَإِنَّ العَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَان غَاصِب، وَلاَ لِعَرَض حَاضِر، فَإِنْ كُنْتُما بَايَعْتُمانِي طَائِعَيْنِ، فارْجِعَا وَتُوبَا إِلَى اللهِ مِنْ قَرِيب، وَإِنْ كُنْتُما بَايَعْتُمانِي كَارِهَيْنِ، فَقَدْ جَعَلْتُما لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ، وَإِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ))([4]) . ثمَّ حاججهم باتِّهامه بقتل عثمان بن عفان، فقال لهم:((وَقَدْ زَعَمْتُما أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمانَ، فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَعَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ أمْرِئٍ بَقَدْرِ مَا احْتَمَلَ))([5])، وقال أيضاً: ((وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نِصْفاً، وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ، وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي، مَا لَبَّسْتُ وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ، وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ))([6])
ولكنَّهم ازدادوا طغياناً فكانوا في غيِّهم يعمهون، ولمَّا أتمَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الحجَّة عليهم قرَّر المسير إليهم بنفسه، وكانت الخطَّة هي البدء بمتمردي البصرة ثمَّ الشام([7]).
وكان على البصرة من لدن أمير المؤمنين (عليه السلام) عثمان بن حنيف (رضوان الله عليه)، وعند قدوم عائشة وجيشها تفاوض معهم واستقرَّ الرأي أن ينتظروا إلى أن يأتي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو من يفصل بالأمر، وما يمضي إلَّا يومين أو ثلاثة حتَّى يغدر جيش عائشة بعثمان بن حنيف فَظَفِرُوا بِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ خَشُوا غَضَبَ الْأَنْصَارِ، فَنَتَفُوا شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَحَاجِبَيْهِ وَضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ، وَبَلَغَ حُكَيْمَ بْنَ جَبَلَةَ مَا صُنِعَ بِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَقَالَ: لَسْتُ أَخَافُ اللَّهَ إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُ! فَجَاءَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ رَبِيعَةَ إلى عائشة واتباعها وقال لهم: نُرِيدُ أَنْ تُخَلُّوا عُثْمَانَ، فَيُقِيمَ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ عَلَى مَا كَتَبْتُمْ بَيْنَكُمْ حَتَّى يَقَدَمَ عَلِيٌّ، ولكنَّهم رفضوا عرضه وقتلوه مع أصحابه، ثمَّ جاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد هذه الواقعة وحدثت معركة الجمل في البصرة([8]) . وقد راح ضحيَّة هذه المعركة ((حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم من أَصْحَاب علي، ونصفهم من أَصْحَاب عَائِشَة، من الأزد ألفان، ومن سائر اليمن خمسمائة، ومن مضر ألفان، وخمسمائة من قيس، وخمسمائة من تميم، وألف من بنى ضبة، وخمسمائة من بكر بن وائل وقيل: قتل من أهل البَصْرَة فِي المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل من أهل البَصْرَة فِي المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل من أهل البَصْرَة، ومن أهل الكُوفَة خمسة آلاف، وقتل من بني عدي يَوْمَئِذٍ سبعون شيخاً، كلهم قَدْ قرأ القرآن، سوى الشباب ومن لم يقرأ القرآن))([9]). أمَّا مجموع من قُتل في تلك المعركة فقد قيل: ثَلَاثَة عشر ألفاً([10])، وقيل عشرون ألفاً([11])، وقيل: ((ثلاثون ألفًا، لم تكن مقتلة أعظم منها))([12]).
الهوامش:
 ([1])نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 136 .
 ([2])المصدر نفسه: 49 .
 ([3])الأمالي، الشيخ االطوسي: 715
 ([4])نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 445 – 446 .
 ([5])المصدر نفسه: 446 .
 ([6])المصدر نفسه: 63 .
 ([7])الأمالي للشيخ الطوسي: 716
 ([8])الكامل في التاريخ: 2/578 – 581 .
 ([9])الفتنة ووقعة الجمل: 1/279، تاريخ الرسل والملوك: 4/538 ، ينظر: الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة: 2/293
 ([10])تاريخ خليفة بن خياط: 1/186 .
 ([11])تاريخ خليفة بن خياط: 1/186 ، المستَخرجُ من كُتب النَّاس للتَّذكرة والمستطرف من أحوال الرِّجال للمعرفة: 2/571 .
 ([12])تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: 3/448 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3097 Seconds