بقلم السيد نبيل الحسني
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصـى نعمائه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، وازكى صلواته واتم سلامه على المبعوث رحمة للعالمين وآله المنتجبين أساس الدين وعماد اليقين.
يرشدنا النص التاريخي حول قدوم معاوية إلى العراق بعد الوصول إلى اتفاق حول الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام)، إنه ارتقى المنبر ليخطب بالناس فيبين لهم سبب هذا الصلح فقال:
(إن الحسن بن علي رآني للخلافة أهلاً ولم ير نفسه أهلاً).
وهذا المدعى الذي ادعاه معاوية يشتمل على أمور تتعلق بالأمن الفكري والأمن الإنساني في آن معاً وهي كالآتي:
1- إن معاوية آثر على استخدام لفظ (الخلافة) ليثبت للناس أن توليه هذا المنصب سيكون تحت عنوان الخليفة، ومن ثم يترتب على الناس التسليم له بما ناله الخلفاء من قبله من شأنيه وحقوق وطاعته.
2- إن هذه الخلافة هي الخلافة الإلهية التي خص الله تعالى بها علي بن أبي طالب وولده الإمام الحسن عليهما السلام ومن ثم يعد اكتسابه لهذا المنصب اكتساباً شرعياً له ما لعلي والإمام الحسن عليه السلام.
3- توهينه للمرتكزات التي قامت عليها خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) في أذهان الناس وهي التعيين بالنص الإلهي والنبوي وإنه غير مؤهل لهذا المنصب ومن ثم لا صحة لما وقع في بيعة الغدير.
4- إسقاط الموالاة للإمامة وإشراكها مع منصب الحكم والخلافة السلطوية حينما تنازل عنها الإمام الحسن عليه السلام لمعاوية.
وهذا في خصوص أنهيار الأمن الفكري للمسلمين، أما ما يتعلق بالأمن الإنساني فيكمن فيما يلي:
1- لا شك إن الجهد الذي بذله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مصاديق الأمن الإنساني في حياته، وما قام به أمير المؤمنين عليه السلام من جهود عبر هذه السنوات في دفع الضرر عن الإسلام ومحاربة الفساد أصبح اليوم منهاراً وذلك ان معاوية نقل المسلمين إلى حياة مختلفة فقد كان الإمام الحسن عليه السلام يمثل هذا الصـرح القرآني والنبوي وانه بتنازله الذي عبرَّ عنه معاوية (انه اهلاً) لحياة جديدة وعلى الناس نسيان الماضي والاستعداد لحياة أخرى يقودها معاوية.
2- إن جميع ما قام به معاوية عبر توليه الحكم في زمن عمر بن الخطاب فكان واليه على الشام وما نتج عنه من متغيرات في الحياة، وسفك للدماء في صفين، والتحريض في وقوع الجمل، وما نتج عن التحكيم بين أهل الشام وأهل الكوفة وافرازاته في ظهور الخوارج وقتالهم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد اكتسب صفة الصواب، ومن ثم ما سيترتب عليه من متغيرات حياتية ينهار فيها الأمن الإنساني سيكون فيها الملوم هو الإمام الحسن عليه السلام - والعياذ بالله - لأنه كما يدعي معاوية قد وجده أهلاً للخلافة.
ولذلك:
فإن هذا الكم من الشبهات العقدية والانحرافات الفكرية والحياتية يقتضي من الإمام الحسن عليه السلام أن يبددها من أذهان الناس ويعيد الأمور إلى نصابها ومسارها الصحيح.
ولذا:
يفيد النص التاريخي الذي أخرجه الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى أن الإمام الحسن عليه السلام انتظر أن ينتهي معاوية من كلامه، وقد كان جالساً عنه بمرقاة من المنبر فلما نزل صعد الإمام الحسن عليه السلام المنبر فخطب بالناس رداً على هذه الافتراءات والشبهات، فقال عليه السلام بعد أن حمد الله تعالى بما هو أهله فابتدأ بذكر آية المباهلة، فقال:
«فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنفس بأبي، ومن الأبناء بي وبأخي، ومن النساء بأمي وكنا أهله، ونحن له، وهو منا ونحن منه.
ولما نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كساء لأم سلمة رضي الله عنها خيبري، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»، فلم يكن أحد في الكساء غيري وأخي وأبي وأمي، ولم يكن أحد يجنب في المسجد ويولد له فيه إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي، تكرمة من الله تعالى لنا، وتفضيلا منه لنا.
وقد رأيتم مكان منزلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر بسد الأبواب فسدها، وترك بابنا، فقيل له في ذلك، فقال: «أما إني لم أسدها وأفتح بابه، ولكن الله عز وجل أمرني أن أسدها وأفتح بابه».
وان معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا، فكذب معاوية، نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا، وتوثب على رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفئ، ومنع أمنا ما جعل لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، وما طمعت فيها يا معاوية، فلما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها، فطمعت فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء أنت وأصحابك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إما ولت أمة أمرها رجلا وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا».
وقد تركت بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى عليه السلام فيهم واتبعوا السامري، وقد تركت هذه الأمة أبي وبايعوا غيره، وقد سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة»، وقد رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصب أبي يوم غدير خم، وأمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، وقد هرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قومه وهو يدعوهم إلى الله تعالى حتى دخل الغار، ولو وجد أعوانا ما هرب، وقد كف أبي يده حين ناشدهم واستغاث فلم يغث، فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، وجعل الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعوانا، وكذلك أبي، وأنا في سعة من الله حين خذلتنا الأمة وبايعوك يا معاوية، وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضا.
أيها الناس، إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب أن تجدوا رجلا ولده نبي غيري وأخي لم تجدوه، وإني قد بايعت هذا P وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍO[1]»[2].
الهوامش:
[1] سورة الأنبياء، الآية: 111.
[2] ا لمزيد من الاطلاع ينظر: الأمن الإنساني في خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) بين مفاهيم الامم المتحدة ومفاهيم القرآن والعترة (عليهم السلام): ص 92 – 95ط العتبة الحسينة.