بقلم: م. م. هدى ياسر سعدون
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
جاءت كلمة القضاء عند اللغويين بمعان مختلفة، فقضي من قضيت بين الخصمين وعليهما: حكمته، والقضاء مصدر في الكل، واستقضيت: طلبت قضاءه واقتضيت منه حقي، أخذت، وقاضيته، حاكمته([1]).
وقد استعمل القرآن الكريم القضاء بمعنى الحكم: فقال تعالى:
﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾([2]).
القضاء اصطلاحًا:
قال ابن خلدون: «منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسمًا للتداعي وقطعًا للتنازع»([3]).
لما أقام الرسول (صلى الله عليه وآله) دولته العظمى في يثرب أقام مجلس القضاء في جامعه الأعظم، وتولى بنفسه الشريفة القضاء وفصل الخصومات[4]، وقد تمثل ذلك في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) في صورة رائعة للقضاء الإسلامي لكونه يضمن للناس كرامتهم، وقد أكدت الروايات، أنه لما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إرسال الإمام (عليه السلام) قاضيًا الى اليمن..، قال له: ادن مني فدنا منه فضرب على صدره بيده وقال: اللهم اهدِ قلبه وثبت لسانه. قال أمير المؤمنين: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام[5].
خاطب الإمام (عليه السلام) القضاة قائلًا:
«ذِمَّتي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ: إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ، حَجَزَهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ»([6]).
أهمية القضاء:
تتجلى أهمية القضاء كونه من أهم مراكز الدولة الإسلامية وإقامته من واجبات الحاكم تحدث الإمام علي (عليه السلام) مع شريح القاضي عن منصب القضاء ومدى أهميته في الإسلام قائلًا:
«يَا شُرَيْحُ، قَدْ جَلَست مجلسًا لاَ يجلسهُ إلاَ نَبِيّ، أَوْ وَصِيُّ نَبِيّ، أَوْ شَقِيٌّ»([7]).
فالقضاء إنما هو الحكم بين الناس بالحق والعدل والمساواة لذلك فقد أولى الإمامg القضاء عناية خاصة، وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) الى أهمية القضاء في تقوية الدولة بقوله:
«لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ، وَيَجْمَعُونَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الاُمُورِ وَعَوَامِّهَا»([8]).
وقد أشار النبي (صلى الله عليه وآله) والصحابة الأوائل الى براعة الإمام علي (عليه السلام) ودقته في تولي القضاء، كإصداره أحكامًا هي غاية في الدقة وفي احتواء مسائل معقدة وجديدة، لا سابق لها في المجال القضائي([9]).
القضـاة:
من خلال كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) نلاحظ اشتراطه في القضاة أن يكونوا أفضل أبناء الأمة وذوي مواصفات عن غيرهم وما جاء في عهده للأشتر تلك التي تخص القضاء أروع ما يكون حيث قال (عليه السلام):
«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُمِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ، أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الاُْمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، أُولئِكَ قَلِيلٌ»([10]).
وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد لقوله (وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً) أي تضجرًا، وهذه الخصلة من محاسن ما شرطه (عليه السلام)، فإن القلق والضجر والتبرم قبيح، وأقبح ما يكون من القاضي([11]) ثم يقول بشرط آخر وهو أن يتطلع على أحكامه وأقضيته، وأن يفرض له عطاءً واسعًا يملأ عينه، ويعف به عن المرافق والرشوات، وأن يكون قريب المكان منه كثير الاختصاص به ليمنع قربه سعاية الرجال وتقبيحهم ذكره عنده([12]).
فقد انبرى من كلام الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر لذكر أمور من الأساسيات والمرتكزات لإدارة أي دولة، فاشترط أن يكون القضاة أفضل الناس، علمًا وتقوى وبذلك فعليه أن يتحمل المسؤوليات التي تناط إليه([13]).
الهوامش:
[1] الفيومي، المصباح المنير، مادة (قضي)، ص366.
[2] سورة يونس، (آية – 93)، للمزيد يُنظر: الاصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص407؛ = =ابن الاثير، النهاية، 4/76؛ الطريحي، مجمع البحرين، مادة (قضى)، 3/445.
[3] ابن خلدون، المقدمة، ص221.
[4] الخربوطلي، الحضارة العربية الإسلامية، ص49.
[5] المفيد، الإرشاد، ص149، وجاءت هذه الرواية بطريقة اخرى فيها بعض الاختلاف، يُنظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى،2/337؛ سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص49.
[6] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، خطبة (16)، 2/234.
[7] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 3/4.
[8] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، كتاب (53)، 17/49.
[9] يُنظر: جعفر، محمد باقر، قضاء أمير المؤمنين، مطبعة الآداب، (النجف – 1997)، ص6.
[10] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، كتاب(53)، 17/44.
[11] المصدر نفسه، 17/45.
[12] المصدر نفسه، 17/45.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: الفكر الإداري عند الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة، هدى ياسر سعدون: ص204.