بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
إن النفس الإنسانية التي تجعل من المال هدفاً وغاية، قد تضطر إلى التخلي عن التزاماتها في سبيل ذلك، لذا فقد رأى علي عليه السلام ان يكون المؤهل لمنصب القضاء ممن لا «تشرف نفسه على طمع»[1]. كما أن التبرم والضيق لا يتفقان وطبيعة العمل القضائي. فمن خاصية القاضي أن يكون منشرح الصدر يستمع إلى الخصوم بإصغاء دونما ملل «من مرجعة الخصم»[2] ويتحلى بضبط النفس «حتى تتكشف الأمور»[3]، ويجب ان يتمتع بمزايا الشجاعة والجرأة والصرامة في الوقوف بجانب الحق «عند اتضاح الحكم»[4]. وينأى بنفسه عن الخيلاء وينبذ النفاق والتزلف «فلا يزدهيه اطراء ولا يستميله إغراء»[5].
وعلي عليه السلام حين يضع لمنصب القضاء تلك الشروط المثالية، فهو على وعي تام بأن الحصول على مثل أولئك الرجال قليل[6]، ولكن قلتهم لا تمنع من البحث عنهم بين الناس لحاجة المجتمع إليهم، إلا أنه في الوقت نفسه واحترازاً من الوقوع في الخطأ، واطمئنانا على حقوق الناس اوجب على ولي الأمر مراقبة القضاة، ومراجعة احكامهم من حين إلى حين[7].
وحين يجنب القضاة الانزلاق في هاوية الحاجة بقبول الرشاوي والاغراءات المادية فقد أوصى لهم من المال «ما يزيل (غلتهم) وتقل معه (حاجتهم) إلى الناس»[8].
ولاستقلالية القضاء مكانة عالية في فكر عليعليه السلام، لأنه ـ كما نتصورـ يرى إبعاد القاضي من أي ضغط من شأنه التأثير في نزاهة الحكم بالإرهاب، أو بأية وسيلة أخرى، وحتى يكون حكم القضاة نافذاً في كل الأوقات، وعلى جميع الناس، فقد أوصى أولياء الأمور ممن يوكل إليهم اختيار القضاة، أن يكون أصحاب أولئك المناصب تحت إشرافهم المباشر[9] ولا يوكلوا أمر الإشراف عليهم من قبل هيئة معينة. وذلك حتى يقوى مركزهم، ويشعرون بأن وراءهم قوة تسندهم في حال ابتلائهم بقوة تحد من سلطتهم وتعطل احكامهم، وبذلك يمكن القول ان علياًعليه السلام قد وضع دستوراً مثاليا متكاملاً، يتناسب ومثاليته المتناهية في حب الإنسان والإنسانية)[10].
الهوامش:
[1] راجع رسائل 53، فقرة .
[2] المصدر السابق.
[3] المصدر السابق.
[4] راجع رسائل 53، فقرة .
[5] المصدر السابق.
[6] المصدر السابق.
[7] المصدر السابق.
[8] المصدر السابق.
[9] المصدر السابق.
[10] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 332-334.