من ضوابط فهم النص القرآني في نهج البلاغة ثانياً: النهي عن تفسير القرآن الكريم بغير الأصول المعتمدة

مقالات وبحوث

من ضوابط فهم النص القرآني في نهج البلاغة ثانياً: النهي عن تفسير القرآن الكريم بغير الأصول المعتمدة

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-01-2021

بقلم م. م. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
لعل هذا الموضوع بالذات يحوي مجموعة من أُسس فهم القرآن الكريم وضوابطه، فهذا المفهوم تندرج تحته جملة من المصاديق، فالتكلم في القرآن بالرأي، والقول في القرآن بغير علم، وضرب القرآن بعضه ببعض، كل ذلك يحوم حول معنى واحد وهو الاستمداد في تفسير القرآن بغير الأصول المعتمدة([1]).
التكلم بالقرآن بالرأي
المقصود به هو تفسير القرآن الكريم بالاستقلال والإنفراد والاختصاص، أي أنْ يستقل المفسر في تفسير القرآن الكريم بما عنده من الأسباب، ويعدُّ هذا التفسير من أخطر أنواع التفسير بدلالة جملة من الأحاديث الواردة عن النبي وأهل بيته عليهم السلام، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب"([2])، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار([3]).
ومنها قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "إّنما بِدءُ وقوع الفتن أهواءٌ تُتَّبع وأحكام تُبْتَدع يُخالف فيها كتاب الله"([4]).

ومن تلك الروايات التي حذرت من مغبة الوقوع في ورطة التفسير بالرأي قول الإمام الصادق عليه السلام: "من فسر القرآن برأيه إنْ أصاب لم يؤجر وإنْ أخطأَ خرَّ أبعدَ من السماء"([5]).
وعليه فأنَّ التفسير بالرأي "لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي الشريف، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع الآية في غير موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها، ويؤدي كذلك إلى تأويل بعض القرآن أو أكثر آياته بصرفها عن ظاهرها"([6]).
وبالتالي يجنح بصاحبه الى فسادٍ فكري تنسحب آثاره على الأمة الإسلامية فيحدث شرخاً في النسيج الاجتماعي والثقافي مسببا أمراضاً فكرية طالما عانت منها الأمة الإسلامية.
وإذا علمنا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أمر بالتدبر والتفكر والإمعان في نصوص القرآن الكريم فأنَّ هذا الأمر يختلف عن مسألة التفسير بالرأي غير المنضبطة.
ضرب القرآن بعضه ببعض
إنَّ هذا الأمر من الأمور الخطيرة التي جنح إليها بعض من الناس بسبب دوافع عقائدية نأت بهم عن مهمتهم الجليلة في تفسير القرآن الكريم تفسيراً صادقاً مستندناً إلى أُسس علمية رصينة.
ولهذا "يُعدُّ ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلاً لتصديق بعض القرآن ببعض، ويعني الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها، والإخلال بترتيب مقاصدها كأخذ المحكم متشابهاً، والمتشابه محكماً ونحو ذلك"([7]).

وقد وردت في هذا الجانب روايات أكدت ما ذهب إليه هذا المعنى ؛ لأنّه يؤدي إلى الهلاك والضلال، فضلاً عن تكذيب القرآن الكريم، فقد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوماً يتدارؤن في القرآن الكريم، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه"([8]).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض الإ كفر"([9]).
وعليه فإنَّ التعامل مع تفسير القرآن الكريم بآخر يجب أن يكون مبنياً على أسس علمية منبثقة من دراية تامة، فضلاً عن الخوف والخشية من الله سبحانه وتعالى، لأنَّ التكلم بالقرآن بالرأي والقول في القرآن بغير علم، وضرب القرآن بعضه ببعض، مرجعها إلى معنى واحد وهو "الاستمداد في تفسير القرآن بغيره"([10]).
انطلاقاً من هذا فقد وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أَساساً لكيفية التعامل والتعاطي مع تفسير القرآن الكريم بقوله في نهج البلاغة: "أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له فلهم أنْ يقولوا وعليه أنْ يرضى، أم أنزل الله ديناً تاماً فقصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول: {... مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ...}([11])، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}([12])، وأنَّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلاّ به"([13]).
كما أنَّ النهي عن التفسير بالرأي يُستكشَف من كتاب بعثه إلى معاوية جاء فيه:"... فعدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن، فطلبتني بما لم تجن يداي ولا لساني، وعصبته أنت وأهل الشام بي وألَّب عالمكم جاهلكم، وقائمكم قاعدكم فاتق الله في نفسك([14])".
فمؤثرات الدنيا وشوائب العاطفة تجعل المفسر يقول بالرأي كما بين الإمام عليه السلام ذلك إذْ ليس بمقدور الإنسان أنْ يتحرر وينعتق من قيود الذات، لذا تعد هذه الكلمات قواعد مهمة يمكن الأخذ بها في فهم القرآن الكريم.
فقد أفاد السيد الطباطبائي من هذه القواعد بقوله: "وسنورد ما تيسر لنا مما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل بيته في ضمن أبحاث روائية في هذا الكتاب، ولا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجة نظرية عقلية، ولا فرضية علمية"([15]).
وهذا يعني الابتعاد عن التفسير بالرأي المنهي عنه من النبي وأهل بيته عليه السلام، فقد شجب السيد العلامة تلك التحميلات والتكلفات التي قد تبدو من بعض المفسرين حينما يحاول أنْ ينأى بالآية إلى مرادات بعيدة عنها لأجل إيجاد المطابقة مع ما في ذهنه وما يتبناه من أفكار ويعتقده من رؤى تشكل راسباً لديه، بقوله: "وأنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد أنَّ الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما أنتجته الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقاً وسمي به التطبيق تفسيراً، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، وتنزيل عِدَّة من الآيات تأويلات، ولازم ذلك أنْ يكون القرآن الذي يُعرِّف نفسه بأنَّه هدى للعالمين ونور مبين وتبيان لكل شيء مهدياً إليه بغيره ومستنيراً بغيره ومُبَيًنًا بغيره"([16]).

كما أفاد السيد السبزواري هذه القاعدة مستدلاً بجملة من الروايات عن النبي وأهل بيته عليهم السلام أبرزها ما ورد في نهج البلاغة وهو قوله عليه السلام:"ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيّهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه..."([17]). 
ثم قال:"وخلاصة ما يستفاد منها على طولها أنَّ فهم القرآن لا بد وأنْ يكون أوّلاً بإرجاع المتشابه إلى المحكم وإرجاع المحكم إلى السنّة، ثم ترتيب الأثر بما يستفاد من المحكم والاعتراف بالعجز عن الفهم والدرك، وإنَّ التفسير بالرأي والعمل به بدون ذلك يستلزم الاختلال المذموم عقلاً وشرعاً"([18])

وأفاد من هذه القواعد في كيفية ولوج العملية التفسيرية الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل إذْ قال: "أخطر طريقة في تفسير القرآن هي أنْ يأتي المفسّر إلى كتاب الله العزيز معلّماً لا تلميذاً، أي يأتي إليه ليفرض أفكاره على القرآن، وليعرض آراءه وتصوراته المتولّدة من إفرازات البيئة والتخصّص العلمي، والاتّجاه المذهبي الخاص... ونحن في منهجنا التّفسيري سوف لا ننحو بإذن الله هذا النحو، بل نتّجه بكلّ قلوبنا وأفكارنا نحو القرآن لنتتلمذ عليه لا غير"([19]).
ولا يستبعد أنْ يكون هذا المنحى في تفسير القرآن الكريم بكل هذا التواضع أمامه قد استقاه المفسر من معلمي القرآن وهداته، كما لا يستبعد أنْ يكون من فيض علوم الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة، فإنَّه أول من أسَّس ونظَّر لقواعد فهم القرآن الكريم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ([20]).

الهوامش:
([1]) ظ: أصول التفسير والتأويل، كمال الحيدري، 145.
([2]) الوسائل، 27/ 190، كتاب القضاء، الباب 13، من أبواب صفاة القاضي، الحديث، 13.
([3]) الوسائل، 27، 189.
([4]) نهج البلاغة، 1/ 99.
([5]) الوسائل، 27/ 202، الباب 13، الحديث 66.
([6]) أصول التفسير والتأويل، 144.
([7]) أصول التفسير والتأويل، 144.
[8])) بحار الأنوار، 30/ 513.
[9])) الكافي، 2/ 632، باب النوادر.
[10])) ظ : أصول التفسير والتأويل، 145.
([11]) الأنعام، 38.
([12]) النساء:82.
([13]) نهج البلاغة، 1/ 56.
([14]) نهج البلاغة، 3/112.
([15]) الميزان، 1/ 11.
([16]) الميزان، 1/ 8، 9.
([17]) مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيد عبد الاعلى السبزواري (ت1412هـ)، منشورات دار التفسير، قم إيران، ط / 5، (1431هـ ـ2010 م)، 5/ 69، ونهج البلاغة، 1/ 54.
([18]) مواهب الرحمن في تفسير القرآن، 5/ 69.
([19]) الأمثل، 1/ 8.
[20]) لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي: ص91-97، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2296 Seconds