بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول بل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
وبعد:
ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في النهج ليدلَّ على المعنى الحقيقي وهو حبس السِّلعة الى حين غلائها، فتحذيرُ الإمام (عليه السلام) من الاحتكارِ نابع من الجانب العملي فهو إذ يحذِّر ولاته، وأركان دولته من هذا المَرض فيوصي بعهدهِ المعروف إلى الصحابي الأشتر النخعي (رضوان الله عليه) قائلاً: « وَاعْلَمْ ـ مَعَ ذلِكَ ـ أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ، فَامْنَعْ مِنَ الاْحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ. وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْل، وَأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ وَعَاقِبْ فِي غَيْرِ إِسْرَاف»[1].
بدأ الإمام (عليه السلام) كلامه بالمديح والثناء على التُّجار، ثم استأنفَ كلامه بفعل الأمر (اعْلَم) وبعدها اعتراضاً بـ(مع ذلك)، وجاءَ بأوصافٍ تُعَدُّ بابَ مضرةٍ وعيبٍ على الوِلاةِ (الضيقُ الفاحشُ، الشحُّ القبيحُ، إحتكارُ المنافعِ، تحكمُ البياعاتِ)، أمَّا (احتكاراً) جاء معطوفا على إسم (أنَّ) والتقدير: (أنً ضيقاً فاحشاً، وشحَّاً قبيحا، وإحتكاراً للمنافع في كثيرٍ منهم) وتقدم خبر (انً) في كثيرٍ منهم على اسمها ضيقاً فاحشاً جوازاً، والغرضُ من التقديم التوكيد، و(حُكْرةً) مصدرا للمَرَّة على زنة (فـُعْلَة) مفعولا به منصوبا وعامله الفعل (قارفَ)، كما وردت مجرورة بحرف الجر (مِنْ) معرفة بـ(ال)، ومسبوقة بفعل الأمر(امنع) في قوله: (فامنع من الاحتكار) ؛ لتدلَّ على منع الإحتكار سواء أكان قليلاً أم كثيراً في كل الحالات منعاً باتاً، فتحدث إلى واليه عن التٌجار ودورهم في الاقتصاد، وأوصاه بهم، وهذا المنع الحاسم من الإمام (عليه السلام) للاحتكار يعني حرص الإسلام على تحصيل الرِّبحِ الذي يقوم على الثــَّمن المصطنع تخلقه ظروفاً للاحتكار الرأسمالي[2].
و(قارف حُكْرة): واقعها، وأمره أن يؤدي ذلك من غير اسراف، وذلك أنه دون المعاصي التي تُوجب الحدود، فغاية أمره من التعزيز الإهانة والمنع، فالاحْتِكار مُحَرَّمٌ نَصَّا وإجماعا، إذ تحدث إلى واليه عن التٌجار ودورهم في الاقتصاد، وأوصاه بهم ولايختص بنوع معين ؛ بل يعمُّ كلّ مايضْطَرُ إليه الناس، والحاَكِمُ يُجْبِر المُحْتَكِر أن يعرض السِّـلعة في الأسواق[3].
ولايحلّ له التَّسعير إلاً لضرورة المجتمع ومصلحته، وللوقاية من استغلال البًائع وجشعه، ويعني الحرص على تحصيل الرِّبح الذي يقوم على الثـًمن المحلل، والمَنع من الثـًـمن المصطنع الذي تخلقه ظروف الاحتكار الرأسمالي.
والحَكْرُ: «الظلم في النقص وسوء المعاشرة. وفلان يحكِرُ فلانا: أدخلَ عليه مشقة ومضرة في معاشرته ومعايشته. وفلان يَحْكِرُ فلانا حَكْرا. والحكر: ما احتكرت من طعام ونحوه مما يؤكل، ومعناه: الجمع، والفعل: احتكر وصاحبه محتكر ينتظر باحتباسه، الغلاء»[4].
قال ابن فارس: «الحاء والكاف والراء أصلُ واحد، وهو الحَبْس»[5].
والَحَكْرُ: ادَّخار الطَّعام للتَربُصِ، وصاحِبُه مُحْتَكر، وحَبْسَ الشَّيء وادًخره، ويقال: احْتَكر الشَّيء إذا حَبَسَه إلى حينِ غَلائِهِ[6].
وصَرَّحَ ابنُ سيده بأنً الاحتكار جمع الطعام ونحوه ممّا يُؤكل وإحتباسه انتظارا لوقت الغلاء به[7]. ومن الناحية الفقهية هو: «حبسُ السِّلعةِ والامتناع عن بيعِها لانتظار زيادة القيمة مع حاجة المسلمين إليِّها، وعدم وجود الباذلِ لها»[8]
أو اشتراءُ قوتُ البشر، والبهائم، وغير ذلك من السلع، ثم حبسها للمتاجرة بها وقت الغلاء[9].
وعرف ابن ابي الحديد (الاحتكار) بأنه:» إبتياع الغلات في أيَّامِ رخصها، وادِّخارها في المخازن إلى أيام الغلاء والقحط»[10].
ويُعـَد من الأمراض الاقتصادية والإجتماعية الخطرة التي لها انعكاساتها السيئة على المجتمع؛ لذا شرع الاسلام منعه وتحريمه وبشدة على كافة الاصعدة النظرية والعملية الدنيوية والاخروية. .[11].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة: ك 53، 329.
[2] ظ: الاسلام يقود الحياة: 105.
[3] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 17 / 66.
[4] ظ: العين (مادة حكر): 3 / 61 ـ 62.
[5] مقاييس اللغة: 2 / 92.
[6] ظ: لسان العرب (مادة شرى): 2 / 949.
[7] ظ: المحكم والمحيط الاعظم: ابن سيدة: 2 / 59.
[8] منهاج الصالحين: ابو القاسم الخوئي: 2 / 3.
[9] ظ: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: 38.
[10] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 17 / 66.
[11]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 60 –63.