خُطَى الخُزَاعي
من المعلوم أنَّ فارق المحدِّدات واختلافاتها أوجد التخصصات وشعَّبها، ثمَّ أنّ من تلك المحدِّدات ما يفترض فيها شرطية التحقق في التخصص المعين كالذاتي المقوِّم في الماهيات، وإنَّ منها ممَّا لا يؤثر على حقيقة التخصص وإن كان انخرامه مؤثًرا في بعض كمالياته.
ولعل مجال الإعلام الأكثر عرضة في المجالات من جهة التساهل بمحِّدداته المقوِّمة نزولًا إلى حدِّ إلغائها؛ فيُجعل منه بذلك ممارسة أقرب في الواقع إلى عنوانات أخرى([1]) لا تشترط ذات القيود المطلوبة في الممارسة الإعلامية وأهمها أن يكون الخبر مادة الإعلام خاضعًا لضابط الصدق والموضوعية.
ولأنَّ أقصى ما يُنظر إليه من ممارسات الإعلام هو تفاعل المتلقين الذي سيتجلى بمستويات على حسب قناعات الأشخاص، ولأنَّ القناعات عادة ما تنجذب فطرة إلى المصداقية والحقيقة فيترتب عليه أنَّ رجع صدى الإعلام متوقف على صدق مادته وموضوعيتها، ولكن يمكن أن يُقال عند هذه الفاصلة من الكلام أنَّه قد يتفق أن يُتحصل تفاعل جمعي كبير ممَّا يُسمى إعلامًا على الرغم من أنَّ مادته غير صادقة أو مجيَّرة بحيز ما لهوى أو لعاطفة، ولكن هذا القول لا اعتبار له إذا ما علمنا بأنَّ هذا النوع من التأثير وقتي يتناقص مع الزمن أو مع بيان وجه الحقيقة وهذا واقع قد خبرناه بمعايشة تأثيرات صاخبة لهكذا ممارسات.
وهنا لابدَّ من التوقف عند مثال في الإعلام ذي المادة الحقة والتأثير المستدام وهو الإعلام العاشورائي الذي اعتلت أولى منصاته السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)، الذي قد أنتج ينعه تأثيرًا تخطى الزمن والمكان والجيل وهو ما يزال على الرغم من بُعد الحادثة وغياب الشخص في ألق وتوهج، يهدي إلى القضية ببيان ذي جودة وإثراء.
وكما أنَّ التأثير في الجمهور متوقف على صدق الخبر وحياديته كذلك يعتمد بنسبة ما على ما يتمتع به شخص الإعلام من مزايا مؤهلة تتناسب وأداء الوظيفة من إيمان بالقضية المثقف لها وشجاعة في طرح الحق أو التصحيح حال اشتباه الخبر أو بيان عدم صدقه فيما بعد مع بلاغة الطرح والتمكن من إيراد الحجة، وقد تحقق هذا المعنى كثيرًا في إعلام السيدة زينب (صلوات الله عليها) بأعلى مستويات التحقق، إذ حازت من الملكات ما جعلها تنهض من ركام المصيبة بجلد وتعتلي المنصة فتبسط الحقيقة على طول الأفق زادًا مسبلًا لكل من يمر من درب عاشوراء ولو اتفاقًا، فهي من قيل شأن رباطة جأشها وقابلية بيانها: ((ولم أرَ خفرة (عفيفة) قط أنطق منها، كأنَّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، ... وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكتت الأصوات فخطبت فيهم..))([2])، أمَّا عن وعيها ومدى إيمانها برسالتها ينبيك قولها (صلوات الله عليها) لابن أخيها الإمام السجاد (صلوات الله عليه): ((مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأخوتي، فو الله إنَّ هذا لَعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشّهداء، لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه على كرور اللّيالي والأيّام، وليجهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلاّ علواً))([3]).
ثقفت (صلوات الله عليها) للحقيقة في أكثر الظروف أزمة للحدِّ الذي انعدمت فيه إمكانية الإيماءة إليها، لتهب (صلوات الله عليها) لكل من يسير على ذات الطريق قبسًا ينير به وجهها من قلب الظلام، ثم دفعة معنوية في الصدح بها مهما ارتفع الضجيج.
فسلام عليها مستدام ما دام هديها وصلاة على جدها رسول الله واهل بيته الطاهرين ما صلى عليه الله وملائكته والمؤمنون.
الهوامش:
[1] ينظر: الإعلام والدعاية، عبد اللطيف حمزة: 78 وما بعدها.
[2] الأمالي، الشيخ المفيد: 321.
[3] الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد، الشيخ محمد السند :373-374.