بقلم: السيد نبيل الحسني الكربلائي
إنّ الملفت للانتباه هو عدم اهتمام المؤرخين وأهل السير بردود الفعل التي أحدثها كتاب الإمام علي (عليه السلام) على معاوية وقد حمله إليه أبو مسلم الخولاني، وهو تساؤل فرضه البحث، فَسَعَينا للبحث عن الاجابة، فكانت النتيجة ضمن النقاط الاتية:
أولاً: مواجهة قصدية منتج النص في تجريد خصمه من مقومات الحكم .
التجئ معاوية الى كتمان فضائل بني هاشم عن أهل الشام التي وردت في كتاب الإمام علي (عليه السلام) جواباً على ما ادعاه في مطلع كتابه الذي جاء به أبو مسلم الخولاني الى الكوفة، لاسيما وأن قرّاء أهل الشام كان تحركهم نحو معاوية مرتكزاً على خلوِّه من الفضائل التي تمكنه من جمع الناس من حوله في حربه وقتاله للإمام علي (عليه السلام).
فقد بادروه بالسؤال:
(علام تقاتل علياً، وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته).
وعليه:
لم يجد معاوية بُداً وخلاصاً من هذا المأزق سوى محاولة صرف بعض الفضائل عن الإمام علي (عليه السلام) وأن لبني أمية مثل ما لبني هاشم من المآثر، ومن ثم تقديم أفضلية الخلفاء الثلاثة على قاعدة ترتيبهم الزمني في الجلوس على كرسي الخلافة، فضلاً عن نعته للإمام علي (عليه السلام) -والعياذ بالله- بالحسد والبغي موهماً نفسه وأشياعه بأنه يستطيع من هذا التعريض دفع الامام علي (عليه السلام) عن بيانه لما جرى من الشيخين في حقه ومن ثم صرف الانظار عن قصدية منتج النص (عليه السلام) في بيانه افتقار معاوية من جميع مقومات الحاكم الاسلامي والخلافة.
وأن هذه المقومات مجموعة ومتحققة في عترة النبي (صلى الله عليه وآله)، ابتدأ من قديم عزٍ بني هاشم قبل الاسلام واصطفائهم للنبوة والإمامة وهو ما اكتنزه النص في «منّا ومنّكم» الذي أوردنا شطراً منه فيما يتعلق بخير نساء العالمين خديجة وفاطمة (عليهما السلام).
ولذا: كان لابد له من ايجاد وسيلة تخرجه من هذا المأزق الذي اوقعه فيه قرّاء أهل الشام والمجيء إليهم بأمرٍ لا طاقة لهم برده والتخلي عنه، كما في ثانياً.
ثانياً: إن أوج التأثر في النص ظهر في فعل قرّاء أهل الشام .
يظهر تفاعل المتلقي الأول -أي معاوية- مع النص في تدبيره للخروج من فك مقاصدية النص وتأثيراته على المتلقين، فعمد معاوية الى حيلة كبيرة صرف من خلالها الانظار عن مبتغى منتج النص في اظهار غصبية معاوية للحكم، وفقدانه لمقومات الحاكم الإسلامي، فجاء الى قميص عثمان ليتخذ منه وسيلة لتغيير موازين مقدمات الحرب والإعداد النفسي والعقدي لها، (فقد ألبس منبر دمشق قميص عثمان وهو مخضب بالدم، وحول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله لا تجفُّ دموعهم على عثمان)[1].
وبغض النظر عن التحقق في هذا العدد إلا أن مما لا ريب فيه أن الالتجاء الى هذه الحيلة العظيمة للخروج من تأثيرات الكتاب الذي كتبه الإمام علي (عليه السلام) له تداعياته الفكرية والاجتماعية والعقدية على أهل الشام، فهؤلاء الشيوخ الذين يبكون حول قميص عثمان قد صرفوا الانظار كلياً عن فضائل علي (عليه السلام) وهجرته وسابقته وقرابته بالنبي (صلى الله عليه وآله).
بل: أن هذه الدموع قد غسلت أدمغة الشاميين عن جميع القيم التي جاء بها المصطفى (صلى الله عليه وآله) ولم يبقَ فيها سوى الثأر لعثمان ، حتى لو افترضنا مجازاً ومحالاً أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله) من قبره ليخبرهم بأن علياً بريءُ من دم عثمان لما انقادوا لقوله بعد هذا التأثير النفسي، والوعي الجمعي السلبي المنصاع لخدمة الحاكم.
ولذلك:
لم يكتفِ معاوية بهذا الفعل، وإنما أتبعه بخطاب أسهَمَ في شد عزمهم وأقفال عقولهم على الخروج لقتال الإمام علي (عليه السلام) مهما كلف الامر، فقد اطفئ سراج المناقب والفضائل الذي منعهم لاسيما القرّاء منهم من التعرض لحرب الامام علي (عليه السلام).
ولذا:
خاطب أهل الشام بعد أن ألَّبَ مشاعرهم بقميص عثمان الذي ألبسه المنبر، فقال:
(يا أهل الشام، قد كنتم تكذبوني في علي، وقد أستبان لكم أمره، والله ما قتل خليفتكم غيره، وهو أمر بقتله، وألّبَ الناس عليه، وآوى قتلته وهم جنده وأنصاره وأعوانه، وقد خرج بهم قاصداً بلادكم ودياركم لإبادتكم.
يا أهل الشام، الله الله في عثمان، فأنا ولي عثمان وأحق من طلب بدمه، وقد جعل الله لولي المظلوم سلطانا. فانضروا خليفتكم المظلوم، فقد صنع به القوم ما تعلمون، قتلوه ظلما وبغيا، وقد أمر الله بقتال الفئة الباغية حتى تفيئ إلى أمر الله)[2].
ثم نزل من المنبر.
أذن:
أستطاع المتلقي الأول وهو معاوية، من فهم مقاصدية منتج النص جيداً، واستطاع أيضا أن يغير الانماط الثقافية لدى المتلقي الثاني وهم أهل الشام، وسحب تفاعلهم وتأثرهم بمكانة الإمام علي (عليه السلام) وماله من الكمالات والحرمة التي تحول دون إقدامهم على حربه ومواجهته وقتاله فكانت حرب صفين بفعل هذه التأثيرات النفسية والعقدية والتي لم تزل تسير بتلك المفاهيم إلى يومنا هذا[3].
[1] وقعة صفين لنصر بن مزاحم: ص127.
[2] وقعة صفين، نصر بن مزاحم: ص127.
[3] لمزيد من الأطلاع ، ينظر: فاطمة عليها السلام في نهج البلاغة ، السيد نبيل الحسني :ج5 ص 177-180.