بقلم السيد نبيل الحسني الكربلائي
لقد كفتنا بضعة النبوة وصفوة الرسالة (عليها السلام) ببيان مخالفة أبي بكر للقرآن بمنع ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحبسه عنها، فكان احتجاجها بمحكم التنزيل في ثبوت الإرث، وهو على النحو الآتي:
قالت (صلوات الله وسلامه عليها) في خطبتها الاحتجاجية[1] في مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جمع من المهاجرين والأنصار، وفيهم أبو بكر، وقد توجَّهت إليه:
«يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل/16].
وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا، إذ قال:
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} [سورة مريم/ 5-6].
وقال:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [سورة الأنفال/75].
وقال:
{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء/ 11].
{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة/180].
وزعمتم: أن لا حظوة لي، ولا أرث من أبي، ولا رحم بيننا؛ أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إنّ أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟
فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحل عليه عذاب مقيم)[2].
ولقد اَحتجت بضعة النبوة وصفوة الرسالة (صلوات الله عليها) بالأصول القرآنية في ثبوت ميراثها ضمن هذا البيان، وهي على النحو الآتي:
الأصل الأول: إنّ أحكام الشريعة تجري على النبي (صلى الله عليه وآله) قبل أن تجري على أمته.
إنَّ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) تجري عليه أحكام الشريعة في أوامرها ونواهيها؛ بل: أنه المعني الأول في تأدية الفرائض والواجبات، كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، والجهاد، وغيرها من الفرائض ومنها الإرث، فلا فرق في انعقاد ذمة المسلم وذمته (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإرث أو غيره من أحكام الشريعة.
بل: إنّ الله عز وجل قد شدد عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وحذّره، بل وهدده فيما لو تقوّل على الله عز وجل بغير ما لم يقله سبحانه، فقال عز وجل:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [سورة الحاقة/44-47].
وهذا التحذير والتشديد والتهديد كاشف عن خطورة الحكم الشرعي والامتثال له وحفظه وصونه، ومن ثَمَّ: لو كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المستثنى من أحكام الإرث في شريعة الإسلام لوجب عليه أن يخبر المخصوصين بالإرث ويطلعهم على حقوقهم وتكاليفهم الشرعية كي لا يقعوا في الإثم، فضلاً عن إلزام الشريعة المقدسة له بإبراء ذمته من ورثته.
أما أن يتركهم دون بيان فهذا خلاف تكليفه الشـرعي، ومحال وقوعه منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فنعوذ بالله من ذلك؛ ونبرأ إليه من القائلين والمعتقدين به.
وعليه: لو كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لا يورِّث)!! لكان أول العالمين بهذا الحكم الشرعي هي ابنته البضعة النبوية فاطمة (عليها السلام) وأزواجه، وعمه العباس بن عبد المطلب، ووصيه وخليفته من بعده وأخوه علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أمّا أنّ جميع هؤلاء ليس لديهم علم بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يورِّث)! فتأتي فاطمة (عليها السلام) تطالب أبا بكر الذي حجر أموال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصادرها؛ وتأتي أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) تطالب أبا بكر بإرثها[3] ويأتي عمه العباس مع الإمام علي (عليه السلام) يطالبان بإرثهما من عمر بن الخطاب[4]؛ ويقع التخاصم والتشاجر فيما بينهم، ويُحار الصحابة في أمرهم!! فهذا ما لا يعقله إلا إمرؤٌ ضرب الله على عقله وقلبه، فأصمّه وأعماه وأكمّه.
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [سورة الفرقان/44].
ولذا:
اَحتجت البضعة النبوية (عليها السلام) بآيات الأحكام في فريضة الإرث التي شرّعها الله في الإسلام، فكانت هذه الآيات، على النحو الآتي:
1ـ قال عزَّ وجلَّ:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [سورة الأنفال/75].
2ـ وقال سبحانه:
{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء/11].
3ـ وقال عزَّ وجلَّ:
{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة/180].
فهذه النصوص القرآنية وضعت الأصل في الفرائض التي تعلقت بالأموال، وما يترتب عليه من إنفاذ حقوق نسب الدم والوالدية وعُلقة الزوجية؛ والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء في ذلك مع المسلمين بنص القرآن الكريم.
لكن السلطة الجديدة ممثلة بأبي بكر منعت هذا الأصل الشرعي وعارضته.
الأصل الثاني: إنّ النبوّة غير مانعة للإرث وغير معطلة للشريعة .
في الدفاع عن شريعة الله تعالى تحتج بضعة النبوة وصفوة الرسالة (عليها الصلاة والسلام) بالأصل الثاني من أصول فريضة الإرث وثبوتها في القرآن، وهو أنّ النبوة غير حاجبة لهذه الفريضة وغير معطلة لها، وهو ما جاء في قوله تعالى:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل/16].
وفي خبر نبيه يحيى (عليه السلام) قال عز وجل:
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} [سورة مريم/ 5-6].
ومن ثم فكونها بنت سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) لها الحق في أن ترث أموال أبيها كما ورث سليمان أموال داوود، وورث يحيى أموال زكريا؛ والحال يجري مجراه في حياة جميع الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام).
وعليه:
فإن ما اَدعاه أبو بكر بالحديث المزعوم: (لا نورِّث ما تركناه صدقة)!! معارض للقرآن ومعطل للفريضة؛ ومخل -والعياذ بالله- بشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الأصل الثالث: لا تقييد في القرآن يخرج النبي (صلى الله عليه وآله) من الحكم .
تنتقل البضعة النبوية (عليها السلام) من الاحتجاج بالنصوص القرآنية في إثبات فريضة الإرث والتأصيل لعنوانها وحكمها، الى بيان خاصية جديدة لمبنى الحكم، وهو المطلق والمقيد، كقوله تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فهذا مطلق في العدل والفاسق، وقوله:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} مقيد بالعدالة، فيبنى المطلق عليه؛ ومن ثم يتم الأخذ بشهادة العادل حصراً، وهنا: في قولها (عليها السلام):
«أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها» تستفهمهم عن المقيد في الإرث الذي أخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منه؟!
ولو بآية واحدة من فريضة الإرث، وأنّه لا يورِّث درهماً ولا ديناراً، وإن ترك مالاً فهو صدقة؟! أم أن قول عمر بن الخطاب لما حضر عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمعه يقول:
«هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده»، فيرد عليه، قائلاً:
(إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله)!![5] لا ينفع الاحتجاج به في خصومة فاطمة (عليها السلام) فأين (حسبنا كتاب الله)!! لماذا لم يرجعوا إليه!! أم أن كتاب الله يحتسب إليه بمقتضيات المصلحة وبما تهوى الأنفس؟!
قال تعالى:
{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [سورة البقرة/87].
والنتيجة:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [سورة الأعراف/ 146].
ولذلك:
نجد أنّ البضعة النبوية (صلوات الله وسلامه عليها) تطالبهم مستفهمة عن التقييد في الحكم ليبنى عليه المطلق في آيات الإرث التي احتجت بها ابتداءً، وقد ألزمتهم بما ألزموا به أنفسهم من قولهم: (حَسْبُنا كِتاب الله)! فهل فيه آية قيدت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أُمّته بعدم الإرث!! فأين هم من كتاب الله!!، وابن الخطاب يقول للصحابة: (عندكم القرآن)؟!!
الأصل الرابع: لا تخصيص في القرآن يمنع النبي (صلى الله عليه وآله) من الإرث.
يرشدنا النص الى أصل جديد في مباني الأحكام وهو الخاص والعام، فضلا عن كونه أحد أُسس علوم القرآن، ومن ثم: أين التخصيص في القرآن بحجب إرث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عموم الحكم؟
كقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ}؛ فهذا كتاب الله، فأين التخصيص بمنع فاطمة (عليها السلام) من عموم أحكام الإرث إن كان أبو بكر وعمر والصحابة أعلم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وباب مدينة علم النبوة، ووصيه في أمته، وخليفته فيهم، وحجته عليهم؟!!
ولذا: تسألهم فاطمة (عليها السلام) عن هذا الأصل، قائلة: «أفخصَّكُم الله بآيةٍ أخرج أبي منها... أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟!».
الأصل الخامس: اختلاف الملّة منتف بينهما (صلوات الله عليهما).
بعد عرض الحجج والبراهين القرآنية في ثبوت انتقال أموال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الى ابنته فاطمة (عليها السلام) بقي أمر أخير، وهو اختلاف الملّة والكفر -والعياذ بالله- فهل كانت بضعة النبوة وصفوة الرسالة (صلوات الله عليها) على ملّة أخرى غير التي عليها أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتحجب أمواله من الإرث؟!!
فخاطبتهم متسائلة: «أم هل تقولون إن أهل ملّتين لا يتوارثان، أوَلستُ أنا وأبي من أهل ملّةٍ واحدة؟!».
وعليه:
فهذه الأموال قد أحاطت بفريضة الإرث وتعلقها في ذمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثبوت انتقالها الى وريثه فاطمة (عليها السلام)، وإنّ منعها من هذا الحق مخالف للقرآن، ولما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[6].
الهوامش:
[1] هذه الخطبة الشريفة والتي تسمى بـ (الخطبة الفدكية) وإن كان البعض ينكر سندها أو متنها؛ وذلك لكشفها مجريات ما وقع من الظلم على عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاسيما بضعته التي خاصمها أبو بكر فألدّ في خصامها، إلا أنها تضمنت أصول الشريعة في ثبوت إرث النبي (صلى الله عليه واله)، وذلك عِبْر بيان عموم القرآن وخاصه في الإرث، ومطلقه ومقيده، وموانعه وحواجبه.
وعليه:
فلا اعتبار في قول من أنكرها أو نسبها الى أبي العيناء في محاولة بائسة لإشغال القارئ أو السامع في صحة الخطبة ونسبتها، وتطبيق قواعد الجرح والتعديل على رواتها؛ إذ كيف يروق لمن تحزب للخلافة أن يرويها أو يحدث الناس بها؛ ومن ثم فلا مهرب من حججها وبراهينها التي تأخذ بالأعناق.
ولعل الاستشهاد بقول ابن طيفور (المتوفى 380هـ) والشريف المرتضى (المتوفي 436هـ) فيه الكفاية عن كشف تلك المحاولات الدؤوبة والبائسة في حجب ظلامة البضعة النبوية (عليها السلام)؛ فأنى للغربال حجب عين الشمس وقد ثبت في الصحيحين أنها (عليها السلام) ماتت وهي واجدة وغاضبة وساخطة على من ظلمها وسن ذلك في أمة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ومنه ظلمها بحجب احتجاجها ومحاربة خطابها؛ وفي ذلك يقول حفيدها زيد الشهيد ابن الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قيل له:
(أن هؤلاء يزعمون أنّه مصنوع، وأنه كلام أبي العيناء، لأن الكلام منسوق البلاغة؟ فقال: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن أباءهم ويعلمونه أولادهم، وقد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة (عليها السلام) على هذه الحكاية، ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جدي أبو العيناء، وقد حدثت الحسين بن علوان عن عطية العوفي، أنه سمع عبد الله بن الحسن ذكر عن أبيه هذا.
ثم قال زيد الشهيد: وكيف ينكر من هذا كلام فاطمة (عليها السلام) وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة (عليها السلام) فيحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت).
ينظر: الشافي في الإمامة للشريف الرضي: ج4 ص 77؛ بلاغات النساء لأبن طيفور: ص12.
[2] الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص139؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج3 ص37؛ الشافي في الإمامة للمرتضى: ج4 ص70.
[3] الموطأ لمالك بن أنس، باب: ما جاء في تركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ج2 ص993.
[4] صحيح مسلم، باب حكم الفيء: ج5 ص152.
[5] صحيح البخاري، باب: قول المريض: قوموا عني: ج7 ص 9.
[6] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معرضة حديث لا نورث للقرآن والسنة واللغة ، السيد نبيل الحسني : ص88 – 97، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة / العتبة الحسينية المقدسة ، ط1 لعام 2022م