بقلم: السيد نبيل الحسني
استند الجصاص إلى حديث «لا نورِّث» وبعض التأويلات التي أراد عِبْرها دفع صريح قوله تعالى في وراثة الأنبياء (عليهم السلام) من سورة مريم:
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [سورة مريم/5-6].
فقال:
(قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}؛ روي عن مجاهد وقتادة، وأبي صالح والسدّي: أن الموالي: العصبة، وهم بنو أعمامه، خافهم على الدين لأنهم كانوا شرار بني إسرائيل.
قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}، سأل الله عز وجل أن يرزقه ولدا ذكرا يلي أمور الدين والقيام به بعد موته لخوفه من بني أعمامه على تبديل دينه بعد وفاته؛ وروى قتادة عن الحسن في قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}، قال: "نبوته وعلمه".
وروى خصيف عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان عقيماً لا يولد له ولد فسأل ربه الولد فقال: {يرثني ويرث من آل يعقوب}: النبوة، وعن أبي صالح مثله.
فذكر ابن عباس أنّه يرث المال، ويرث من آل يعقوب النبوة، فقد أجاز إطلاق اسم الميراث على النبوة، فكذلك يجوز أن يعني بقوله: {يَرِثُنِي} يرث علمي؛ وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
«كونوا على مشاعركم -يعني بعرفات- فإنكم على إرث من إرث إبراهيم».
وروى الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن أبا بكر، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول:
«لا نورِّث ما تركنا صدقة».
وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: سمعت عمر ينشد نفراً من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيهم عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وطلحة: أنشدكم بالله الذي به تقوم السماوات والأرض: أتعلمون أنّ النبي [صلى الله عليه وآله وسلم]، قال:
«لا نورِّث ما تركنا صدقة»؟ قالوا: نعم.
فقد ثبت برواية هذه الجماعة عن النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] أن الأنبياء لا يورِّثون المال، ويدل على أن زكريا لم يرد بقوله: {يرثني}: المال، إن نبي الله لا يجوز أن يأسف على مصير ماله بعد موته الى مستحقه، وأنه إنما خاف أن يستولي بنو أعمامه على علومه وكتابه، فيحرفونها ويستأكلون بها فيفسدون دينه ويصدون الناس عنه)[1] [انتهى قوله].
أقول:
اَشتمل قول الجصاص على جملة من التأويلات التي كانت سندًا لكثير من المفسرين الذين جاؤوا بعده، ولذا فقد استلزم البحث فيها مفصّلًا، وذلك لِاحتِوائها على العديد من العلل والمعارضات، وهي على النحو الآتي:
أولاً: إنَّ تأويل الإرث في الآية بـ (الخوف على الدين) يعارضه القرآن والسُنَّة.
قال الجصاص: (روى عن مجاهد وقتادة وأبي صالح والسدّي: (إنّ الموالي: العصبة، وهم بنو أعمامه، خافهم على الدين، لأنهم كانوا شرار بني إسرائيل).
أقول:
الظاهر أنّ قول مجاهد وقتادة وأبي صالح والسدّي محصور في بيان معنى الموالي، وهم العصبة، أما العلة في خوف نبي الله زكريا (عليه السلام) والتوجه للدعاء، والغاية في الإرث، هي للجصاص وليس لهم.
وعلى فرض أن تأويل الإرث في خوف نبي الله زكريا (عليه السلام) هو ما تم اعتماده عند مجاهد وقتادة وأبي صالح والسدّي والجصاص، فإن هذا التأويل يعارض القران، وذلك أن سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أشد الأنبياء (عليهم السلام) خوفاً على الدين والأمة، وأكثرهم أذى من الناس ومن أمته ومما يدل عليه:
1- قال تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} [سورة التوبة/48].
2- وقوله سبحانه: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [سورة التوبة/50].
3- {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [سورة التوبة/101].
فهذه الآيات وغيرها تنص على بيان الأخطار التي كانت تحيط بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلماذا لم يدعُ الله في أن يهب له ولياً يرثه في أمور دينه فلا تتفرق الأمة إلى ثلاثة وسبعين فرقة ويتحكم الأشرار في شريعته؟!
4- بل وجدنا أنّ السُنَّة النبوية تكشف عن بيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتخوّفه الشديد على مصير دينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يحدثه بعض أصحابه في دينه من البدع، وذلك لما أخرجه البخاري ومسلم، أي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فلا يبقى منهم إلا مثل همل النعم»!!
فعن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -في حديث الحوض-، قال:
(«بينما أنا قائم، فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم، فقال: هلم! فقلت: أين؟! قال: الى النار والله، قلت: وما شأنهم؟! قال: إنهم ارتَدُّوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم! قلت: أين؟! قال: الى النار والله، قلت: ما شأنهم؟!، قال: إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم»)[2].
ومن ثم فأيّهما أولى بالاهتمام: سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) أم نبي الله زكريا (عليه السلام)؟!! وأيهما أكثر تخوّفًا وألمًا لما يحدثه الأشرار في شريعته؟ فلماذا لم يدعُ الله أن يرزقه ولدًا وليًا يرثُ أمور دينه؟!
5- لقد بيّن القرآن خوف الأنبياء (عليهم السلام) على دينهم وأقوالهم في جملة من الآيات:
أ ـ أما نوح (عليه السلام) فقد خاف على قومه فلماذا لم يجعل الإرث في خوفه هذا، قال عز وجل:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأعراف/59].
ب ـ وفي خوف النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمته، قال سبحانه:
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}[سورة هود/3].
ج ـ وفي خوف شعيب (عليه السلام) قال سبحانه:
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [سورة هود/84].
وفي بيان خوفه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمته، فقد أخرج البخاري وغيره، عن ابن عامر:
(إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال:
«إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أُعطِيتُ مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها»)[3].
وعليه:
فلا يمكن أن يكون الإرث في الآية، هو: الخوف على الدين، وقد أظهر القرآن والسُنَّة النبوية ما يقطع الطريق على المتأولين في الاستناد الى الحديث المزعوم: (لا نورِّث) بعد هذه المعارضة الواضحة للعديد من الآيات المباركة[4].
الهوامش:
[1] أحكام القرآن: ج3 ص 283.
[2] صحيح البخاري، كتاب الرقاق: ج7 ص 209.
[3] صحيح البخاري، باب في الجنائز: ج2 ص 94.
[4] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معرضة حديث لا نورث للقرآن والسنة واللغة ، السيد نبيل الحسني : ص 113– 119، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة / العتبة الحسينية المقدسة ، ط1 لعام 2022م