بقلم: السيد نبيل الحسني.
يكتنز النص الشريف، أي قوله (عليه الصلاة والسلام) لمالك الأشتر (رحمه الله): «فَامْلِكْ هَوَاكَ، وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ» مبحثين من مباحث تهذيب النفس وتنمية الذات، الأول: ملك الهوى، والثاني: الشح بالنفس، وأن لكل منهما أثره التكليفي على الإنسان، ومن ثمّ سنتناول في هذا المقال «ملك الهوى»، وبيان مفهومه وآلية العمل به، ونخصص المقال القادم لبحث دلالة «الشح بالنفس»، فأمّا دلالة الأمر في قوله (عليه السلام): « فَامْلِكْ» تقتضي اَستيضاح المعنى عند أهل اللغة، وذلك لصعوبة تحقيق الامتثال لأمر الإمام (عليه السلام) هنا، والعلة فيه تعلقه بهوى النفس، ومن ثمّ فالمْلِك، هو: (ما ملكت اليد من مال وخَوَل[1]، وتملّكه، أي ملكه قهرا، وملاك الأمر وملاكه: ما يقوم به. ويقال: القلب ملاك الجسد. وفلان ما له ملَاك بالفتح، أي تماسك. وما تمالك أن قال ذلك، أي ما تماسك)[2].
ومن ثمّ فقد أرشد المعنى اللغوي للمْلِك في قوله (عليه السلام): «فَامْلِكْ هَوَاكَ» إلى دلالتين:
الأولى: قهر هوى النفس.
الثانية: تماسك النفس أمام الهوى.
وذلك أنّ الصراع بين النفس وبين ما تهوى صراع محتدم وهو من أشد ما يتعرض له الإنسان في خلجات نفسه، لما يفرضه الهوى من سلطان عليه، يأخذه إلى شفى جرف من الضياع، ويرديه في المهالك ، وهو أمر لطالما حذّرَ منه النبي(صلى الله عليه وآله) وأئمة العترة (عليهم السلام)، إذ تكشف الأحاديث الشريفة عن خطورة تمْلِك الهوى وإذعان النفس وانقيادها له، فمما جاء في الأثر الذي اَخرجه الكليني(رحمه الله):
1 ـ عن أبي حمزة، عن أبي جعفر[الباقر] (عليه السلام)، قال:
«قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله: يَقُولُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: وعِزَّتِي وجَلَالِي وعَظَمَتِي وكِبْرِيَائِي ونُورِي وعُلُوِّي وارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَاه عَلَى هَوَايَ إِلَّا شَتَّتُّ عَلَيْه أَمْرَه ولَبَّسْتُ عَلَيْه دُنْيَاه وشَغَلْتُ قَلْبَه بِهَا ولَمْ أُؤْتِه مِنْهَا إِلَّا مَا قَدَّرْتُ لَه، وعِزَّتِي وجَلَالِي وعَظَمَتِي ونُورِي وعُلُوِّي وارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاه إِلَّا اسْتَحْفَظْتُه مَلَائِكَتِي وكَفَّلْتُ السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ رِزْقَه وكُنْتُ لَه مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ وأَتَتْه الدُّنْيَا وهِيَ رَاغِمَةٌ »[3].
2ـ عن أبي محمد الوابشي، قال سمعت أبا عبد الله [جعفر بن محمد الصادق] (عليهما السلام)، يقول:
«احْذَرُوا أَهْوَاءَكُمْ كَمَا تَحْذَرُونَ أَعْدَاءَكُمْ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْدَى لِلرِّجَالِ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وحَصَائِدِ أَلْسِنَتِهِمْ».
3 ـ عن يحي بمن عقيل، قال، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وطُولَ الأَمَلِ أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّه يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ».
4ـ عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال، قال لي أبو الحسن [موسى بن جعفر] (عليهما السلام):
«اتَّقِ الْمُرْتَقَى السَّهْلَ إِذَا كَانَ مُنْحَدَرُه وَعْراً».
5ـ وبهذا السند قال: وكان أبو عبد الله [جعفر بن محمد الصادق] عليهما السلام، يقول:
«لَا تَدَعِ النَّفْسَ وهَوَاهَا، فَإِنَّ هَوَاهَا فِي رَدَاهَا، وتَرْكُ النَّفْسِ ومَا تَهْوَى أَذَاهَا، وكَفُّ النَّفْسِ عَمَّا تَهْوَى دَوَاهَا[4].
ومن ثمّ فإنّ أمره (عليه السلام) لمالك (رحمه الله) «بملك هواه» وتقديمه على أمره «بشح نفسه» كاشف عن مصاديق المعنى ودلالته ، فضلا عن اكتنازه لحكمة دقيقة، وهي أن الإنسان بقهر الهوى وتماسك النفس يستطيع إن ينتقل إلى المرتبة الآخرى وهي البخل بها فيما لا يحل لها عبر الإنصاف بها في مواطن الحب والكره، وذلك أن إيثار الإنسان لهواه يقوده إلى الآثام عِبْر الوقوع فيما لا يحل له، وأن عدم الإنصاف فيما يحب أو يكره هو من نتائج ترك الامتثال للشح بالنفس كما سيمر بيانه في الحلقة القادمة – إنشاء الله تعالى -[5].
الهوامش:
[1] كتاب العين، الفراهيدي: ج5 ص380 ؛ والخول : التصرّف بالشيء ، أي التخويل.
[2] الصحاح، الجوهري: ج4 ص1611
[3] الكافي : ج2 ص335
[4] الكافي: ج2 ص335
[5] لمزيد من الإطلاع ، ينظر : فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني، ص156-161 / مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 - درا الوارث كربلاء المقدسة 2023م