الباحث: الشيخ سجاد الربيعي
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والتسليم على طبيب نفوسنا وحبيب قلوبنا محمد صلى الله عليه وآله وعلى أهل بيته وصحبه المنتجبين.
قلة الكلام من الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة، وهي تدل على أدب الشخص، ورزانة عقلة، وفيها يكون المرء محترماً وحافظاً لمكانته في المجتمع، وتكون له هيبة، عكس الثرثار في حديثه، فيصبح منبوذاً بين الناس، وكذلك إن قلة الكلام تستر عيوب المرء وتقلل من ذنوبه. وبالتمعن فيما أثر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : قال ( إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن ، ويحرك عليك من أعدائك ما سكن )[1]، لأنه لو كان غير ملتزمٍ بهذه الصفة، فيصبح يتحدث عن الآخرين، ويغتابهم بكلامٍ ليس فيه شيء من الصحة مما يستوجب عليه الذنب، لكن لو التزم الصمت وقلَّ حديثه، يبعده عن الشيء الذي يكشف عيوبه، ويزيد من ذنوبه وهو (كثرة الكلام)، وعلى المؤمن أن يقلل من كلامه ولا يكثر منه، لأن بكثرة الكلام يكثر خطأ المرء، كما روي عنه (عليه السلام) حيث إنه قال: (من كثر كلامه كثر خطؤه[2](، أي: على الانسان المؤمن أن يكون بعيداً كل البعد عن هذه الصفة، ويقلل من كلامه، وأن يكون منتبهاً ومتأكداً من كل حرف يصدر من لسانه، لأن لو أتى بحديثٍ غير متأًكدٍ منه، قد تكون عاقبته عليه سيئة، أو يكون له عثرة في حياته، فيتعرقل سيره فيها ولا يستطيع الخروج من هذه العثرة التي سببها له لسانه، وهذا ما يتبين لنا من قوله (عليه السلام) : (قلة الكلام تستر العوار، وتؤمن العثار)[3]. ويقول (عليه السلام): (تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه )[4]، يعني أنّ الرجل إذا تكلّم يتّضح حاله ويظهر كونه فصيحا أو معجما ، عالما أو جاهلا ، خيرا أو شرّا ، أي أن اللسان يستطيع أن يكشف سر الانسان إما عمدا أو سهوا[5].
وفي حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) إشارة واضحة في النهي عن كثرة الكلام: (... الْكَلَامُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِه فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِه صِرْتَ فِي وَثَاقِه فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ ووَرِقَكَ...)[6]. والوثاق : الحبل ، وأمر بخزن اللسان عمّا لا ينبغي من القول في غير موضعه ولأهميته الكبرى شبه (عليه السلام) خزنه كخزن الذهب[7] ، مضافا الى ذلك أن قلة الكلام تحافظ على النعمة من الزوال، لأن لو تحدث الإنسان بكلام لا يرضي الله تعالى فإنه سبحانه سيحاسبه عليه، وقد يكون حسابه له بسلب النعمة منه وجلب النقمة إليه، وهذا ما يؤكده أهل البيت (عليهم السلام) في أقوالهم، حيث قال الإمام علي (عليه السلام): (...فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً وجَلَبَتْ نِقْمَةً...)[8].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ما عبد اللَّه بشيء مثل الصّمت...)[9]، وكذلك قلة الصمت دليل على علم الشخص وأخلاقه وفقههِ، وعلى حسن إيمانه بالله تعالى، وهذا ما روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (من علامات الفقيه: العلم والحلم والصمت، إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة ( أو الجنة) أنه دليل على كل خير)[10]، وهذه الصفة، تزيد من حب الناس لهذا الشخص الذي يكون ملتزماً بصمتهِ، (...إنّ الصمت يكسب المحبة، إنّه دليل على كل خير)[11]، عكس الذي يكون ثرثاراً، كثير الكلام؛ فهذا يصبح منبوذاً في المجتمع، وإن كثرة حديثه تؤدي إلى ملل الذين يسمعون كلامه، والدليل على ذلك ما نجده في كلام أمير المؤمنين u، حيث أنه يقول: (كثرة الكلام تمل السمع)[12].
فيتحصل: على المرء أن يصمت ولا يتكلم بكل ما لديه من كلام، وأن لا يأتي بكلامٍ لا تكون له صحة في الواقع، مما ينعكس عليه سلباً، وإن الله فرض على كل عضو من أعضاء الإنسان فرائض تشهد عليه يوم القيامة، وهذا ما يبينه لنا ويؤكده أمير المؤمنين u في وصيته لابنه محمد بن الحنفية u، حيث إنه قال: (يا بني: لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم، فإن الله فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة...)[13]، أي: إن الله تعالى سيعذب اللسان الذي لا ينطق بالحق عذاباً شديداً أكثر من باقي الجوارح في يوم القيامة، لأن بسببه حدثت جرائم وانتهكت حرمات ونهبت أموال، وكذلك بسببه يذهب المرء الى التهلكة، وفي هذا الشأن روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال:(يعذب الله اللسان بعذابٍ، لا يعذب به شيئا من الجوارح؛ فيقول: أي رب عذبتني بعذابٍ لم تعذب به شيئاً من الجوارح؛ فيقال له: خرجت منك كلمة؛ فبلغت مشارق الأرض ومغاربها؛ فسفك منها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام، ...وعزتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من الجوارح)[14]؛ فنفهم من ذلك أنه يجب على المؤمن أن يحسب لكل كلمةٍ يتكلم بها، وأن يكون حذراً ممّا يقوله وينطق به لسانهِ.
الهوامش:
[1] بحار الأنوار: 14 / 441 .
[2] النور الساطع في الفقه النافع، الشيخ علي كاشف الغطاء: 2/582.
[3] غرر الحكم، ح6089، ص223.
[4] نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( ع ): 4 /38 .
[5] ينظر: شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني: 2/ 208.
[6]نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق: صبحي صالح: 543 ، والنور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص582.
[7] ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 5 /433 .
[8] المصدر نفسه.
[9] مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، السيد عبد الأعلى السبزواري: 15/301.
[10] روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، محمد تقي المجلسي: 12 /91 .
[11] المصدر نفسه.
[12] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي:389.
[13]الوافي، الفيض الكاشاني: 26/230.
[14] الكافي، الكليني: 2/115.