شهر رمضان ربيع القرب الإلهي..
عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
عندما خلق الله تعالى الخلق أعطى بحكمته امتيازاتٍ لبعض مكوناته، فحظيت أماكن بالرعاية الإلهيَّة فكانت مقدَّسة من لدنه تعالى، كمكة والمسجد الحرام وبيت المقدس وغيرها من الأماكن المقدَّسة، ولم ينفرد المكان بالاستحواذ على شرف القدسية الإلهية؛ بل رافقه قرينه الزمان بتلك الشرفية، إذ خصَّ الله تعالى بعض الأزمنة برعايته فمنحها قدسيَّةً لا تزول على مرِّ العصور والأزمان، ويبدو أنَّ قدسية المكان والزمان نابعة من قدسية الحدث الذي احتواه ذلك المكان واستوفاه ذلك الزمان أو يمكن القول بأنَّ القدسية متوزِّعة ما بين الحدث والمكان الذي حصل فيه والزمان الذي صاحبه، أي هناك رعاية إلهيَّة في اختيار هذه الشخوص مجتمعة مع بعضها بعضًا، وكيفما يكون الأمر فالثَّابت أنَّ هناك قدسية إلهيَّة وعناية ربانيَّة امتازت بها بعض الموجودات التي تُحيط بالإنسان، وهي جزء من الرحمة الإلهية أن نبَّه الله تعالى الإنسان إلى تلك المقدَّسات؛ كي يستثمر قدسيتها في التقرُّب إلى إليه سُبحانه، ذلك أنَّ الله تعالى يُحبُّ العبدَ إذا تقرَّب إليه في كلِّ مكان وزمان؛ ولكنَّه يُحبُّه أكثر فيما لو تقرَّب إليه في الأماكن والأزمان التي يُحبُّ الله تعالى فيها أن يُعبد، ومن هنا صار الأجر مضاعفًا للذي يبتهل إلى الله تعالى في المكان والزمان المحبَّبين إليه سُبحانه .
ومن الأزمنة التي حظيت بكرامة عند الله تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185]، وهذا الشهر انتدب الله تعالى فيها العباد إلى عبادة مخصوصة وهي الصِّيام، وجعلها تزكيةً لهم من الذنوب والآثام، وكفَّارة لهم عمَّا مضى من التقصير والعصيان، ولم تكن عبادة الصِّيام فيه فقط؛ بل شرع الله تعالى للعبد فيه أنواعًا كثيرةً من العبادة، وكُلَّها بأجورٍ مضاعفة عنده سبحانه، وقد نصَّت أحاديث شريفة على اغتنام الفرصة في هذا الشهر الفضيل بالعبادة والتقوى والتقرُّب إلى الله تعالى في كلِّ أوقاته، وهناك أحاديث كشفت عن أفضل الأعمال في هذا الشهر الفضيل: ومنها ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندما سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ((ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزَّ وجلَّ))([1])، فشهر رمضان برنامج يروِّض النَّفس الإنسانية على الامتناع عن محارم الله تعالى، إذ لو التزم الإنسان في هذا الشهر الكفَّ عن محارم الله تعالى؛ فإنَّ ذلك سيمنحه حصانة في قابل الإيَّام عن ارتكاب المحارم، إذ سينمو لديه رادع ووازع يمنعه من ارتكاب المآثم، ومن هنا يجب أن نعرف أنَّ الصِّيام ليس هو امساك عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات الأخرى فحسب؛ وإنَّما هو في الحقيقة الكفّ عن محارم الله تعالى صغيرها وكبيرها، وإذا ما التزم الإنسان بما أوصاه الله تعالى في شهر رمضان فإنَّه سيكون له جُنَّة من أهوال القيامة ومصائبها، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَاب))([2]) .
أمَّا لو قضى الإنسان شهر رمضان على ما كان فيه من الغفلة واتِّباع الشهوات، ولم يكن له شهر رمضان كافًّا عن محارم الله تعالى فإنَّه سيخسر خُسرانًا مبينًا حتَّى لو صام عن الطعام والشراب، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((كَمْ مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الظَّمَأُ))([3])، ومن هنا لا بدَّ أن نلتفت إلى أهميَّة شهر رمضان وأن نعدَّ له أنفسنا بحيث نكون فيه على غير ما عهدنا الله تعالى من التقصير والإهمال، وأن نُربِّي فيه أنفسنا على الطَّاعة ونبذ المعصية، وأن تكون حياتنا فيه حياةً معطاءً بكلِّ جوانبها، وأن لا نكون أدواتًا تُسخِّرها ملاهي الدُّنيا على كافَّةِ تنوعاتها، إذ من الحريِّ بنا سادتي الأكارم أن نسعى بكلِّ جهد لأن نُرضي الله تعالى بهذا الشهر الكريم، وأن نعدَّ هذا الشهر مرحلة نقاوة وعبادة نستعيض فيها ما فاتنا طوال السَّنة . جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن ينال السهم الأكبر عند الله تعالى في الأجر والطاعة والرحمة الإلهيَّة في هذا الشهر الفضيل .
الهوامش:
([1]) الأمالي، الشيخ الصدوق: 155 .
([2]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) تحقيق صالح: 163 .
([3]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) تحقيق صالح: 495 .