الصيام وبعض مقاصد التشريع

مقالات وبحوث

الصيام وبعض مقاصد التشريع

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 08-05-2019

الصيام وبعض مقاصد التشريع

 

خُطَى الخزاعي

 

إنَّ من شأن المشرِّع الحكيم في اعتبار الأحكام الشرعية التكليفية، هو النظر في ملاكاتها من مصالح أو مفاسد واقعية، بخلاف المقنن الوضعي المستند في تشريعه إلى مايراه من مصالح أو مفاسد تكون في غالبها مخالفةٌ للواقع، وقد تكون تلك الملاكات من مصالح ومفاسد معلومة بإظهار من الشارع، أو مسكوت عنها، وعلى أية حال فالتعبد بالحكم الشرعي يقتضي التسليم التام لتلك الأحكام، وهو غير متوقف على معرفة ما ورائها من غايات، والمتعبد غير مسؤول عن الخوض في علل التشريع غير المُفصَح عنها مادام يعتقد ابتداءً بحكمة المُشرِّع.

فالصيام أحد التشريعات التي تعبد الله تعالى بها خلقه، وكثر التطرق إليه في الشريعة من القرآن وسنة المعصومين، وتعكس كثرة الإيراد تلك عن أهمية هذه الفريضة الإلهية، كما وتبين آثارها التربوية الأخلاقية المتعددة على مستوى الفرد والمجتمع، ويستشف من تلك الآثار أيضًا شيءٌ من مقاصد الشريعة الغراء في تشريع هذا الحكم الإلزامي ومصلحته، ومن تلك المقاصد المنظورة في تشريع الصيام بإيجاز هي :

1/ تحصيل التقوى إذ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[ البقرة: 183]، والتقوى من أشرف الغايات وأعلاها والمتقون من الفئات المحبوبة عند الله تعالى، المُتقبَلة أعمالهم، الموعودون بالجنات والنعيم، والمشرَّفون بولاية الله تعالى كما قال جلَّ وعلا: (...فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 76]، (...إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة:27]، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)[الحجر: 45]( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)[الجاثية:19].

 2/ أن يصل العبد إلى درجة اليقين العالية، بعد أن يكون قد تذوق الحكمة، واستنار بالمعرفة، إذ نقل عن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال في ليلة المعراج: (يا رب ما أول العبادة ؟ قال: أول العبادة الصمت والصوم، قال: يا رب وما ميراث الصوم؟ قال: يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر)([1])، واليقين من أشرف صفات المتقين كما جاء في قوله تعالى بمعرض الحديث عنهم: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة :4]

 3/ يكون حرزًا وحصنًا لصاحبه يمنعه ورود النار كما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (قال ربنا جلَّ وعلا: الصيام جُنَّة يسجن بها العبد من النار...)([2])، فينال الفوز الأخروي كما قال تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ...)[آل عمران:185]

4/ ومن فوائده الكبيرة أيضًا النيل من الشيطان، عدو الإنسان الأول، وتسويد وجهه، وجعله مغلولًا محبوسًا، إذ نقل عن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله ما الذي يباعد الشيطان منا؟ قال: الصوم يسوّد وجهه...)([3])، إذ إنَّ من صفة شهر الصيام كما جاء عنه (عليه السلام)، (هو شهرٌ، الشياطين فيه مغلولةٌ، محبوسةٌ)([4]) .

5/ تثبيت الإخلاص، كما ورد عن الصدِّيقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) في خطبتها الفدكية: (فجعل الله... الصيام  تثبيتا للإخلاص)([5])، ولا يخفى على أحد ما لدرجة الإخلاص من قيمة كبيرة وأثر عظيم، إذ بها يناط  قبول الأعمال، وتحصيل الدرجات.  

6/ ومن فوائده المباركة أيضًا تهذيب النفس وتربيتها على استشعار ألم الآخرين ومواساتهم وتفعيل ذلك عمليًا بمد يد العون إليهم ومساعدتهم، فالإحساس بمعاناة المحتاجين يتحقق بشكل أكبر بحضور نفس الشعور لدى الإنسان، قياسًا بتحصيله من صورة المعاناة الخارجية، وقد (سئل الحسين (عليه السلام) لمَ افترض الله (عزَّ وجلَّ) على عبده الصوم؟ فقال (عليه السلام): ليجد الغني مس الجوع فيعود بالفضل على المساكين)([6]).

على أنَّ تحصيل تلك المصالح والغايات، ونيل الأجر الذي وعده الله تعالى للصائمين من قبيل قول الامام الصادق (عليه السلام): (من صام لله (عزَّ وجلَّ) يومًا في شدة الحر فأصابه ظمأ، وكّل الله به ألف ملك يمسحون وجهه ويبشرونه حتى إذا أفطر، قال الله (عزَّ وجلَّ): ما أطيب ريحك وروحك يا ملائكتي اشهدوا أني قد غفرت له)([7])، لايتأتى بمجرد الامساك عن المفطرات بعيدًا عن شرائط الصيام ومقوماته، فمن لم يصل إلى مقاصد الشرع في تشريعه يكون ممّن وصف (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ)([8])، اللهم اجعلنا ممَّن يتعبد لك به على خير وجه (اللّهمّ وأهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وصحة من السقم وفراغ لطاعتك من الشغل، اللّهمّ ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه، اللّهمّ سلّمه لنا وتسلّمه منّا وسلّمنا فيه)([9])، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين

 

الهوامش:

[1] الجواهر السنية ، الحر العاملي (المتوفى 1104) : 197

[2] مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي(المتوفى 1320): 7/503

[3] بحار الأنوار، المؤلف : العلامة المجلسي( المتوفى 1111) : 93/255

[4] فضائل الأشهر الثلاثة، الشيخ الصدوق(المتوفى381):108

[5] الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (المتوفى: 548): 134

[6] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (المتوفى588): 3/223

[7] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق( المتوفى381) : 2/76

[8] نهج البلاغة :495

[9] سنن الإمام علي (عليه السلام): 371

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2380 Seconds