خُطَى الخُزَاعي
((ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ وأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً، الْمُقِيمِ مِنْهُمْ والْمُضْطَرِبِ بِمَالِه والْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِه، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وجُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ والْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وبَحْرِكَ وسَهْلِكَ وجَبَلِكَ، وحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، ولَا يَجْتَرِؤنَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُه، وصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُه، وتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ، واعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وشُحّاً قَبِيحاً، واحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) مَنَعَ مِنْه، ولْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاه فَنَكِّلْ بِه، وعَاقِبْه فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ)).
أوصى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في هذا المقطع من عهده الشريف لمخاطَبِه ولمن بَلَغه بتوصيات، تقع في طول اهتمامه بتنظيم الجانب الاقتصادي للبلاد، وتأمين احتياجات الرعية، ذاكرًا فئتين من الناس، لهما من الأثر نصيبٌ وافرٌ في تدعيم هذا الجانب استدامةً وازدهارًا، وهما: فئة التجار مقسِّمًا إياهم على مقيم في البلاد وممارس نشاطه فيها، وإلى ضارب في الأرض متنقُّلًا بين البلدان موسعًا رقاع تجارته ومكثِّرًا صنوفها، وفئة أرباب الصناعات الذين يتكسبون بقوة أبدانهم ومهاراتها المختلفة مقدِّمين للمجتمع صنوف الحِرف والصناعات الضرورية في الحياة، ذاكرًا (صلوات الله وسلامه عليه) ماوراء الاهتمام بهاتين الفئتين من الناس؛ معلِّلًا ذلك بذكر الفوائد المتأتية من نشاطاتهم والمساهمة في إغناء الحاجات، وتوفير المتطلبات ثم انسحاب هذا الأمر على استقرار الحياة والاقتصاد؛ فبنشاطهم يحصل الناس على مقومات معاشهم، وكماليات متطلباتهم وإن بعُدَت مواطنها، وتعسَّر عليهم استجلابها، مبيِّنًا (صلوات الله وسلامه عليه) أنَّ هكذا فئات من الناس (التجار وأرباب الصناعات) لابدَّ من أن يُتاح لهم حيز من الحرية والاهتمام متناسبًا وأثرهم، مومئًا أنَّ مثل هذه الأصناف لا تشكل خطرًا على الدولة من جهة أنَّها فئات كادحة همها الاسترزاق وتحصيل الفائدة، وهذا أمر لا يتعارض مع سياسات الدول وشؤونها ولا يلتقي مع مخططات أعدائها، ومن جهة أهم أنَّ ما في حوزتها من أموال هي ليست أموال الدولة غير أنَّها تلعب دورًا مؤثرًا في استتباب اقتصادها، مقارنةً بأصناف أخرى تُخشى بوائقها وتُخاف غوائلها كالتي يدخل في نشاطها اهتمامات أُخرى ربَّما تتعارض مع سياسة الدولة، أو أن يدخل ضمن نشاطها أموال الدولة وحقوق الرعية، فمثل تلك الفئات يسوغ للحاكم مراقبتها ومسائلتها.
غير أنَّ للحاكم دور ومسؤولية أيضًا مع التجار وأرباب الصناعات أبانه أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) يقع ضمن نطاق ضبط تعاملات هاتين الفئتين مع العامة، فيحق له التدخل في شؤونهم من هذه الجهة بما يمنع به من الإجحاف بحقوق الناس والاضرار بمصالحهم، مبيِّنًا (صلوات الله عليه) أنَّ من بين هذه الأصناف أفرادًا كثيرة غير منضبطة في تعاملاتها قاصرةً النظر على استجلاب خصوص مصلحتها من دون مراعاة المصالح العامة للناس، فينبغي على الحاكم أو المسؤول مراقبة نشاطاتهم ومتابعة أحوالهم، فيمنع من ضيق المعاملة والبخل والجشع والتطفيف في الكيل والميزان، إذ إنَّ مثل هذه الأمور لها تبعات على الرعية من جهة الاجحاف بحالهم، وعلى المسؤول من جهة أخرى بوصفه المؤتمن على شؤون الناس والراعي لمصالحهم؛ فيعاب عليه التقصير بعدم رفع الحيف عن مواطنيه وتأمين حياتهم، مركِّزًا (صلوات الله عليه) على محاربة الاحتكار لما له من أثر سلبي بالغ على حياة الناس واقتصاد البلاد، إذ فيه يُستغل الناس من لدن التجار بحبس ما يحتاجون إليه، ثم عرضه عليهم فيما بعد مع تزايد الحاجة إليه بأثمان مضاعفة، مشدِّدًا على محاربته مستشهدًا بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، دافعًا بذلك الحاكم إلى ضرورة التدخل السريع وجدية اتخاذ التدابير اللازمة للمنع من هكذا نوع من الجشع التجاري، وقد أثٌر عنه (صلوات الله عليه) في غير موضع نهيه عن الاحتكار بذم المحتكر وبيان حقيقة حاله، منها قوله (عليه السلام): ((المحتكر آثم عاص))([1])، وقوله: ((المحتكر محروم من نعمته))([2])، و((الاحتكار شيمة الفجار))([3])، و((المحتكر البخيل جامع لمن لا يشكره، وقادم على من لا يعذره))([4]).
فلابُدَّ إذن للمسؤول من مراقبة أسواق الناس في دولته، ومتابعة ما يجري فيها من معاملات، مصحِّحًا ما شذَّ فيها عن السماحة في البيع، والخارج منها عن موازين العدل، والمجحِف فيها لحق البائع أو المبتاع، معطيًّا للحاكم صلاحية في المنع من المعاملات غير الصحيحة بالنهي والتحذير أولًا، وبتفعيل العقوبة الملائمة ثانيًا لخصوص من استهان بالنهي وأصرَّ على احتكار قوت الناس واحتياجاتهم، ولتوصيته هنا نظير في موضع آخر لعامل آخر إذ قال (صلوات الله عليه): ((إنه عن الحُكرة، فمن ركب النهي فأوجعه، ثم عاقبه بإظهار ما احتكر))([5]).
الهوامش:
[1])) دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي (ت:363): 2/35، ح77.
[2])) مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي (ت: 1320)، 13/276.
[3])) المصدر نفسه.
[4])) المصدر نفسه.
[5])) دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي (ت:363): 2/36، ح 80.