خُطَى الخُزَاعي
إنَّ لقيمة المرء الحقيقية عند الله تعالى محدِّدات واقعية، قد تلتقي مع المحدِّدات الاعتبارية الدنيوية أو قد تفترق عنها، وقد يكون الافتراق المخالفة التامة بين بعض هذه المحددات كالمال، أو قد يكون اختلاف من جهة اعتبار أصالة المحدد أو ثانويته كالنسب.
قال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): ((قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُه))، فعقّب الشريف الرضي (رحمه الله) على هذه الحكمة العالية بقوله: وهي الكلمة التي لا تُصاب لها قيمةٌ، ولا توزن بها حكمة، ولا تقرن إليها كلمة))([1])، والجوهر في هذه الكلمة النورانية يكمن في بيان أنَّ قيمة المرء أمر شخصي متعلِّق بالمرء نفسه غير متعدٍ في الاعتبار إلى غيره من حسب أو نسب أو مال هذا من جهة، ومن جهة أخرى جامعية هذه الكلمة وكأنَّها أعطت محددات القيمة الواقعية مجموعة بعبارة (ما يُحسنه) من فكر أو عمل أو صنعة أو خلق.. ونحوها من الأمور التي لها واقع اعتباري مهم ومؤثر، فأصابت كل المعنى وأحاطته، ولا عجب في ذلك فكلام عليٍّ عليُّ الكلام .
ولما كان العلم أفضل الكمالات وأشرفها استأهل أن يكون معيارًا مهمًا ومحدِّدًا واقعيًا في قيمة المرء وقدْره وبيانهما، ونجد هذا المعنى واضحًا في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[2]، فالقيمة الواقعية تتجه صوب أهل العلم في الدنيا وفي الآخرة كذلك، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[3]، وقد بيَّن هذا المحدِّد المولى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في أحدى خطبه العالية ببيان أنَّ من مصاديق (ما يحسنه) المرء المقوّم لقيمته والدال عليها هو العلم إذ قال: ((أقل الناس قيمة أقلّهم علمًا، اذ قيمة كلّ امرئ ما يحسنه، وكفى بالعلم شرفًا أنّه يدعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ضعة، أنّه يتبرأ منه من هو فيه، ويغضب إذا نسب إليه))([4])، وقوله أيضًا: ((الناس أبناء ما يحسنون، وقدر كلّ امرئ ما يحسن، فتكلَّموا في العلم تبين أقداركم))([5])، وكذلك على لسان الإمام الباقر (صلوات الله عليه) إذ قال: ((إنِّي نظرت في كتاب لِعَلِيّ (عليه السَّلَام) فوجدت فيه: إنَّ قيمة كلّ امرئ وقدره معرفته، إنَّ اللَّه تعالى يحاسب النَّاس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدّنيا))([6]).
وشرفية العلم وشأنها بوصفها محدِّد مهم في قيمة المرء وفي الدلالة عليها منوطة بالعمل؛ إذ إنَّ للعمل من الشأن النصيب الكبير أيضًا في محددات قيمة المرء يستشف ذلك من كم الآثار الشريفة الواردة عنهم (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومنها قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) رافعًا شأن الذات العاملة بقوله: ((قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِه...))([7])؛ بل مُرَقِّيًا إياها فوق العمل الخيِّر نفسه بقوله: ((فَاعِلُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْه))([8])، إذ إنَّها علته ومصدره، محقِّرًا العلم المفارق للعمل وبالنتيجة مانعًا إياه من الدخول في محددات قيمة الإنسان ودوالها فقال: ((أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ، وأَرْفَعُه مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ والأَرْكَانِ))([9])، وللخلق أيضًا نصيب في مصاديق (ما يُحسنه) المقوِّمة لقدْر الإنسان، فبالخلق يرتقي الأنسان ويصبح ذا موقعية مهمة في المجتمع وعند الله تعالى فقال (صلوات الله عليه): ((وأَكْرَمَ الْحَسَبِ حُسْنُ الْخُلُقِ))([10]).
أمَّا ما يُتوهم من اعتبارات في الأعراف والمجتمعات الدنيويَّة في قيمة المرء كالمال، فإنَّه لا قيمة له في سوق العقلاء والمتشرعة بعنوانه الخاص المجرد، إلّا إذا جُيِّر في عمل الخير والإحسان إلى الناس، إي أنَّه دخل في عنوان العمل الخيِّر عندها سيؤثر على قيمة الإنسان المنفق بوصفه عملًا لا مالًا، وأمَّا النسب فهو كذلك لا اعتبار له إذا ما تزاحم مع العلم والعمل فقال (صلوات الله عليه): ((مَنْ أَبْطَأَ بِه عَمَلُه لَمْ يُسْرِعْ بِه نَسَبُه))([11])، وللإمام (ابن الخيرتين) زين العابدين صاحب القدح المُعلى في عراقة النسب وشرفيته حينما قيل له -بعدما رؤي باكيًا في مناجاته لله تعالى- من أنَّه ابن الحسين بن علي وجده رسول الله وأمه فاطمة (صلوات الله عليهم جميعًا) فهو بمأمن من مساءلة الله له، فقال: ((هيهات هيهات، خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدًا حبشيًّا، وخلق النَّار لمن عصاه ولو كان ولَدًا قُرشيًّا)) ألم تقرأ القرآن (لمُخاطَبِه)؟ ألم تسمع كلام الله: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾[12]))([13])، وأمَّا إذا ما اجتمع النسب مع العلم والعمل الصالح فسيؤثر على قيمة المرء من ناحية تشريفية كمالية ثانوية، والأصالة للمحدِّد الواقعي، والقول الختام للأمير (صلوات الله وسلامه عليه) حينما: ((سُئِلَ عَنِ الْخَيْرِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ ووَلَدُكَ، ولَكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ، وأَنْ يَعْظُمَ حِلْمُكَ وأَنْ تُبَاهِيَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اللَّه وإِنْ أَسَأْتَ اسْتَغْفَرْتَ اللَّه، ولَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِرَجُلَيْنِ، رَجُلٍ أَذْنَبَ ذُنُوباً فَهُوَ يَتَدَارَكُهَا بِالتَّوْبَةِ، ورَجُلٍ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ))([14]).
الهوامش:
[1] ينظر: نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح): 482.
[2] الزمر: 9.
[3] المجادلة: 11.
[4] مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (عليه وعليهم أفضل الصَّلَاة والسَّلَام): 249.
[5] الكافي: 1/50-51.
[6] معاني الأخبار: 1-2.
[7] نهج البلاغة: (تحقيق صبحي الصالح): 477.
[8] المصدر نفسه:472.
[9] المصدر نفسه:483.
[10] المصدر نفسه: 475.
[11] نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) (تحقيق صبحي الصالح): 472.
[12] المؤمنون: 101.
[13] بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 46/82.
[14] نهج البلاغة: تحقيق، صبحي الصالح: 484.