الاستقلالية السياسية في فكر الإمام علي (عليه السلام)

مقالات وبحوث

الاستقلالية السياسية في فكر الإمام علي (عليه السلام)

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 27-05-2021

بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
ان اعتقاد الإمام علي (عليه السلام) بالنص عليه كوصي للنبي (صلى الله عليه وآله) حدد فكره المتعلق بسياسة الدولة في حدود القرآن والسنة دون غيرهما، لذلك رفض الوصاية على تلك السياسة، التي انبنت عليها كصاحب مبدأ يجب ان يدافع عنه مهما بلغت التضحيات في سبيله، فلقد كان بإمكانه ان ينال الخلافة بعد مقتل عمر حين دعاه عبد الرحمن بن عوف إليها بشرط العمل «بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين من بعده»[1]، ولكنه رفض الشرط قائلاً «أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي»[2]، فلو كانت الخلافة في حد ذاتها طلبته لقبل العمل بسيرة الشيخين، حتى وإن كان القبول بالقول، إلا أنه لم يرض بذلك، لأنه يرفض الإلتواء ولأنه يحج أحقيته بأن يؤخذ برأيه، لا أن يأخذ برأي غيره، لأنه انما يعمل بعلم علمه إياه النبي (صلى الله عليه وآله) ودعا له بأن يعيه صدره، وتضطم عليه جوانحه[3]. فهو إذ ما وضع بين اختيارين مصلحته أو مصلحة الإسلام فإنه يختار ما فيه مصلحة الإسلام، مهما عظمت خسارته الشخصية، لذلك لم يكن من السهل قبوله منصب الخلافة بعد مقتل عثمان، الا بعد الحاح شديد من الناس، واشتراط منه على المبايعين، القبول بالحكم كما يعلمه هو لا كما يريدون، وفي هذا الصدد يقول «اعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب»[4].
ولما أفضت إليه الخلافة، كان عليه ان يتصدى للاضطرابات التي سادت أرجاء ما أحدثه عمال عثمان من فتن أسخطت صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) وجرأة العامة على قتل عثمان، فأشار عليه المغيرة بن شعبة أن يقر ولاة عثمان حتى يستتب الوضع له، ثم يعزلهم، أو على الأقل يقر معاوية على ولايته إلى فترة ما، لأنه لم تكن له حجة في اقرار بقية ولاة عثمان، فإن حجته في إقرار معاوية على الشام، بأن عمر قد أقره من قبل، فلم يكن غريباً ان يرفض اقتراح المغيرة رفضاً قاطعاً بقوله «لا أداهن في ديني ولا أعطي الدني من أمري... ولا استعمل معاوية يومين ابداً»[5] ثم ان طلحة والزبير حين بايعاه كانا يرجوان ان تكون لهما الحظوة دون غيرهما، وقد روي انهما قالا له حين البيعة «نبايعك على اننا شركاؤك في هذا الأمر، فقال لهما: لا ولكنكما شركاي في الفيء، لا استأثر عليكما ولا على عبد حبشي مجدع بدرهم ما دونه، لا انا ولا ولداي هذان»[6].
فالمواقف الصلبة في ذات الله جعلت من فكر الإمام علي (عليه السلام) السياسي، منهجاً صلباً لا يقبل المناورة والمداورة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى ذلك التفرد السياسي في شخص علي (عليه السلام) بقوله «لو وليتهم يحملهم على منهج الحق، فاخذ المحجة الواضحة، الا ان فيه خصالاً: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس»[7]. وبرغم ما في المقولة من تناقض كما يتراءى لنا بين الاستبداد بالرأي، وهو نوع من الشعور بتضخم الشخصية والتعالي، وبين الدعابة التي تعني التبسط والهزل[8]، الا اننا نلمس فيها أيضاً مانحن بصدده من قول حول شخصية علي (عليه السلام) السياسة، فمنهج الحق الذي يقصده عمر، هو ما يعنيه علي (عليه السلام) بقوله لطلحة والزبير حين طلبا منه ان يوليهما «اعلما اني لا اشرك في امانتي الا من ارضي بدينه وامانته من اصحابي ومن قد عرفت دخيلته»[9] لأن مقياس علي (عليه السلام) السياسي في الولاية، البعد عن كل شهوة مادية، وطلحة والزبير ممن لا يرتضي أمانتهما، لأنه يعرف دخيلتهما وحرصهما على الامارة من أجل دعم مصالحهما الشخصية اما ما أشار إليه عمر من طبيعة استبدادية في شخص علي (عليه السلام)، فليس الا لأنه يرى أن المنزلة التي حظي بها عند الرسول (صلى الله عليه وآله) لم تتغير حتى بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) وإقصائه عن الخلافة، فهو يسير على نهجه ويتقفى خطاه (صلى الله عليه وآله)، إذ يقول في هذا الصدد «الا ان موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، كموضعي منه أيام حياته، فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عندما تنتهون عنه»[10]، فتمسك علي (برأيه، نابع من ايمانه وتصوره لنهج الرسول (صلى الله عليه وآله) بأن الدين والدولة كل لا يتجزأ.
وعلى هذا الأساس يمكن دراسة مواقفه السياسية تجاه رجال عصره واحداثه، فما وافق الدين فهو رضا بالنسبة إليه، لذلك فإن وقوفه في الظل طيلة السنوات التي اقصي عما يعتقده حقه، لم يحل بينه وبين المشاركة في سياسة الدولة إذا ما طلب منه ذلك، فمن خلال ما سميناه بواجب الحاكم والاستقلالية السياسية يمكننا الدخول إلى فكر علي (عليه السلام) في مجريات عصره كما رسمها (نهج البلاغة).[11].

الهوامش:
[1] العقد الفريد 4/279.
[2] السابق.
[3] راجع نهاية الخطبة رقم 128.
[4] خطب ـ 91.
[5] تاريخ الطبري 4/ 440، كامل ابن الأثير 3/101 وقد ذكر المصدران حوار علي (عليه السلام) مع المغيرة بأكمله.
[6] ابن أبي الحديد 7/42.
[7] تاريخ اليعقوبي 2/ 159.
[8] ما قيل عن استبداد علي (عليه السلام) برأيه ودعابته وتبكيته للناس يخالف تمام ما وصفه أصحابه الذين عاشروه به من ذلك ما أثر عن ضرار الضابي حين طلب معاوية منه وصف علي قوله «وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن مع تقريبه ايانا وقربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته ولا نبتدئه لعظمته، يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله» الحصري القيرواني ـ زهر الآداب 1/ 41.
[9] ابن أبي الحديد 1/231.
[10] ابن أبي الحديد 7/37.
[11] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 198 – 201.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3130 Seconds