بقلم: الشيخ محسن علي المعلم
((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))
أما بعد:
فإن الحكمة المقتضية لبعث النبي مضطردة في تولي الإمام الوصي لامتداد الإمامة للنبوة اتحاداً في المصدر والجعل واجتماعاً في الهدف والمقصد.
وكان علي -بعد نبي الله- نسخة الإسلام الفريدة التي أبدعها قلم التكوين كما أبدع عدلها الآخر قلم التشريع والتدوين فكلاهما حق وكلاهما قرآن.
«عَلِيٌّ معَ الحقِّ والحقُّ معَ علي»، «عليٌّ معَ القرآنِ والقرآنُ معَ علي»، كما قال الصادق الأمين على وحي الله عن علي ولي الله.
وهل يرقى لمثل هذا تعريف أو توصيف؟!
ومن عسى أن يكون عارفاً ومعرّفاً غير خالق البشر وسيد البشر؟!
«لا يَعْرِفُكَ يا عليُّ إلّا اللهُ وأنا»، هذا وقد تبوّأ مقاماً منفرداً قال عنه: «وأنا مِنْ رسولِ اللهِ كالضَّوءِ مِنَ الضَّوءِ والذِّرَاعِ مِنَ العَضُدِ»[1].
وقد رصد التاريخ عليًّا في كافة أدواره منذ إشراقة نوره في بيت الله الحرام وكعبته المقدسة وأيام صباه وفتوته وكهولته وشيخوخته وما حفلت به من متكاثر الأحداث ومتفاقم الخطوب وشؤون الجهاد الطويل والحروب الضروس والسلم وإدارة الحكم وتوجيه الأمة وهدايتها، وأخلاقه العمليّة مع الكافة وليّه وعدوّه، وفترتي الشدة والرخاء متتبعاً يومياته وجزئيات ممارساته حتى لحق بربه فكانت السيرة الواحدة والحياة المنسجمة التي لم يجد فيها عوجاً ولا أمتاً.
كما تحدث علي عن نفسه في وافر من شؤونه حتى طعامه ولباسه فجسّد في أقواله أخلاقه كما جسّدها في أفعاله.
فلنأخذ من علي عن علي صورة كاملة معبرة أودعها في (نهج البلاغة) وأبدع رسمها حتى أبرزته مجسداً بأبراد الجمال وقالب الكمال في فكره ونبض قلبه ونقاء نفسه وشمائله وما أسبغ عليه مبدعه من ألطاف وإتحاف تحدث بها عن نعمة ربه عليه وحظوته لديه ومنزلته عنده وقربه منه.
1) بداية الروائع خزانة الإبداع:
«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إلى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ. وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ... وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالْاقتداء بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءََ فَأَرَاهُ، وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه ِ(صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ أوَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ»[2].
وقال عن الشجرة وما ظهر من إعجاز رسول الله فيها:
«فقلتُ أنا: لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يا رَسُولَ اللهِ، وأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ ما فَعَلَتْ بأَمْرِ اللهِ تَعالى تَصْدِيقاً لِنُبُوَّتِكَ، وإِجْلالاً لِكَلِمَتِكَ»[3].
2) مقومات شخصيته:
«فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا[4]، ونَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا[5] وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللهِ حِينَ وَقَفُوا، وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً، وَأَعْلاَهُمْ فَوْتاً، فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا[6]، وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا[7]، كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ، وَلاَ تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ. لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فيَّ مَهْمَزٌ، وَلاَ لِقَائِلٍ فيَّ مَغْمَزٌ، الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مَنْهُ، رَضِينَا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ، وَسَلَّمْنَا للهِ أَمْرَهُ. أَتَرَاني أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله)[8]؟ وَاللهِ لَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ فَلاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ»[9].
3) نبراس الحق واليقين:
أ) «وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً»[10].
«فَوَالَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ»[11].
«وَاللهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئاً إِلاَّ وَهَا أَنَا ذَا الْيَوْمَ مُسْمِعُكُمُوهُ»[12].
ب) «(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)؟ و(أَنَّى تُؤْفَكُونَ)[13]! وَالْأَعْلاَمُ قَائِمَةٌ، وَالْأَيَاتُ وَاضِحَةٌ، وَالمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ؟ وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ[14] وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ؟ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وَأَعَلَامُ الدَيْنِ! وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ[15] الْعِطَاشِ»[16].
4) مؤهلات وامتيازات:
أ) «تَاللهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالاَتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ، وَتَمَامَ الْكَلِمَاتَ. وَعِنْدَنَا -أَهْلَ الْبَيْتِ- أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَضِيَاءُ الْأَمْرِ»[17].
ب) وقال (عليه السلام) قبل موته:
«غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي»[18].
ج) من جملة كلامه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«بَلِ انْدَمَجْتُ[19] عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَأَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ[20] فِي الطَّوِيِّ[21] البَعِيدَةِ!»[22].
5) التسليم المطلق - الاستقامة الفذة:
«وَلَقَدْ عَلِمَ المُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ. وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي المَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الْأَقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا»[23].[24].
الهوامش:
[1] ك 45 /418.
[2] خ 192 /300-301.
[3] م ن /302.
[4] تَقَبَّعُوا: اختبأوا.
[5] تَعْتَعُوا: ترددوا في كلامهم من عِيٍّ أو حَصَر.
[6] العنان: عنان الفرس.
[7] الرهان: الجعل الذي وقع عليه التراهن.
[8] في المطبوع صلاة بتراء هنا.
[9] خ 37 /80-81.
[10] خ 97 /142.
[11] خ 197 /312.
[12] خ 89 /122.
[13] تُؤفكون: تُقلبون وتُصرفون.
[14] تعمهون: تتحيّرون.
[15] الهيم: الإبل.
[16] خ 87 /119-120.
[17] خ 120 /176.
[18] خ 149 /208.
[19] اندمجت: انطويت.
[20] الأرشية: جمع رشاء، الحبل.
[21] الطويّ: جمع طوية، البئر.
[22] خ 5 /52.
[23] خ 197 /311.
[24] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص 65-69.