بقلم م. م. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
تُعدُّ العبادة من أعظم أسباب الثبات على الدين، ولهذا قال الله (جل وعلا): {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أو اخرجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}([1]).
لذا فإنَّ من أصول تعاليم الأنبياء والمرسلين عبادة الله الواحد الأحد، وترك عبادة كل شيء سواه، ولم تخلُ تعاليم أي نبي من ذلك، مع اختلاف في كيفية أدائها بين ديانة وأُخرى.
علماً أنَّ الناس لا يستوون في فهم العبادة بل يختلفون في ذلك، فهي عند بعضهم نوع من المعاملة والمعاوضة التي يقع بها التبادل بين العمل والأجر عليه، هذا هو نوع من التصور الجاهل للعبادة عند العوام([2]).
والتصور الآخر عن العبادة هو تصور العارفين بالله سبحانه، فالعبادة عند هؤلاء قربان الإنسان ومعراجه وتعاليمه وصعوده إلى مشارق أنوار الوجود، وهي تربية روحية ورياضة للقوى الإنسانية، وهي ساحة انتصار الروح على البدن، وأسمى مظاهر شكر الإنسان لمبدأ الخلقة ومعيدها، وهي مظهر حب الإنسان للكامل المطلق والجميل على الإطلاق، وهي مسيرة الإنسانية إلى الكمال اللانهائي.
ومما لا شك فيه أنَّ مصاديق العبادة متعددة، لذا فإنَّ المتأمل في كتاب نهج البلاغة يلحظ أنَّه تناول مصاديق كثيرة، وسيأتي البحث على بعض منها نظراً لكثرتها إذْ أنَّ ذكرها يتطلب وقتاً كبيراً، فمن تلك المصاديق:
أولا: مراتب العبادة
لعلَّ أجلى مصاديق العبادة وأنصع صورها تلك الصورة التي رسمها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، إذ إنَّ كلام الإمام يُعدُّ منبع الإلهام لتصور العارفين بالله تعالى من العبادة في الإسلام بعد القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو كلام الإمام عليه السلام.
قال عليه السلام مشيراً إلى مراتب العبادة: ((إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنَّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنَّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار))([3]).
والمرتبة الثالثة مقام جليل تقاصرت عنه قوى كثير من البشر وهي شكر مخصوص، فإذا أوقعها على هذا الوجه كانت بحق عبادة الأحرار([4]).
وقد عبر عليه السلام عنها في موضع آخر بقوله: ((إلهي ما عبدتك حين عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك))([5]).
وقد أفاد السيد العلامة من كلام الإمام أمير علي عليه السلام في نهج البلاغة بحسب هذه المراتب، في تفسير قوله تعالى {إياك نعبد}([6]) إذ إنه أومأَ إلى الأصناف التي ذكرها الإمام عليه السلام، إذ قال مشيراً إلى ما يتعلق بالعبد: ((وأما من من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسداً من غير روح أو يتبعض فيشتغل بربه وبغيره، إما ظاهراً وباطناً كالوثنيين في عبادتهم لله ولأصنامهم معا أو باطناً فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والأغراض كأن يعبد الله وهمه في غيره، أو يعبد الله طمعاً في جنة أو خوفاً من نار فإن ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}([7]) وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}([8])، فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الذي ذكرناه))([9]) .
ويتبين من خلال هذا النص التفسيري أن صاحب الميزان قد أفاد من قول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي ورد ذكره في مراتب العبادة، إذ أورد في تفسيره قول الإمام علي عليه السلام ((إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنَّ....))([10])، وأومأ من خلاله إلى هذه المراتب.
وأفاد السيد الخوئي هذه المراتب أيضاً من تقسيم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، عند تفسيره لسورة (الحمد) إذْ قال: العبادة فعل اختياري، فلا بد لها من باعث نفساني يبعث نحوها، وهو أحد أمور:
1. أن يكون الداعي لعبادة الله هو طمع الإنسان في أنعامه، وبما يجزيه عليها من الأجر والثواب، حسبما وعده في كتابه الكريم إذْ يقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}([11])
وقوله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}([12]).
2. أن يكون الداعي للعبادة هو الخوف من العقاب على المخالفة قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}([13])، وقوله أيضاً: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}([14]).
أن يعبد الله بما أنَّه أهل لأنْ يُعبد، فإنَّه الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والجلال.
وهذا القسم من العبادة لا يتحقق إلا ممن اندكَّت نفسيّته فلم يرَ لذاته إنيّة إزاء خالقه، ليقصد بها خيراً، أو يحذر لها من عقوبة، وإنما ينظر إلى صانعه وموجده ولا يتوجه إلا إليه، وهذه مرتبة لا يسعنا التصديق ببلوغها لغير المعصومين عليهم السلام الذين أخلصوا لله أنفسهم فهم المخلصون الذين لا يستطيع الشيطان أن يقترب من أحدهم ([15]).
ثم ذكر تحت عنوان ((العبادة وأقسام دوافعها)) نص كلام الإمام عليه السلام الواردة في نهج البلاغة ((إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة...)) ([16]))[17].
الهوامش:
([1]) النساء، 66.
([2]) ظ : شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، 19/ 68.
([3]) نهج البلاغة، 4/ 53.
([4]) ظ : شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 19/ 68.
([5]) الألفين، العلامة الحلي، 138، ظ : مصباح الفقيه، آقا رضا الهمداني، (ت 1322)، منشورات مكتبة الصدر ـ طهران (د. ت)، طبعة حجرية، 102.
([6]) الفاتحة، 5.
[7])) الزمر، 2.
[8])) الزمر، 3.
[9])) الميزان، 1/ 36.
([10]) نهج البلاغة، 4/ 53.
([11]) النساء، 13.
([12]) المائدة، 9.
([13]) الأنعام، 15.
([14]) المرسلات، 10.
([15]) البيان في تفسير القرآن، السيد الخوئي، 507، 508.
([16] ظ : البيان في تفسير القرآن، 563.
([17] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 159-164.