بقلم . د. الشيخ محسن الخزاعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَآخرجُوهُم مِنْ حَيْثُ آخرجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ فَإنِ انتَهُوْاْ فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكوُن الدِّينُ للهِ فَإنِ انتَهَوْاْ فَلاَ عُدْوَانَ إلا عَلَى الظَّالِمِينَ}([1]).
هذه الآية تُعدُّ بحسب جملة من المفسرين أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك، وقالوا: أُمرَ فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كف عنهم، ومنهم ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية([2]).
وقال الثعالبي: ((هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل من يقاتله ويكف عمن كف عنه... ثم نهت الآية عن قتال النساء والصبيان، والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإنْ فعلتم ذلك فقد اعتديتم))([3]).
وذكر السيد الطباطبائي: أنَّ سياق الآيات الشريفة يدل على أنَّها نازلة دفعة واحدة، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإنَّ فيها تعرضاً لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، وللفتنة، وللقصاص، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، وكل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، ثم قال:((أنَّه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ـ الآية ـ وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إنْ قاتلوكم وهو ظاهر، و(لا) قيداً احترازياً، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذْ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، ويقال: لا تقاتله بل إنما الصحيح النهى عن قتله دون قتاله))([4]).
عموما إنَّ الآية تأمر بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين، وتجيز لهم أنء يواجهوا السلاح بالسلاح، بعد أنْ انتهت مرحلة صبر المسلمين على الأذى، وحلّت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.
وعبارة ((فِي سَبِيلِ الله)) توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للانتقام ولا للعلوّ في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام، فحمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله تعالى، وفي سبيل نشر الحقّ والعدالة والتوحيد، واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف([5]).
وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن ساير الحروب في العالم، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الأسرى وأمثال ذلك بصبغة ((في سبيل الله)).
لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الافتقار، إذْ منعت الآية تعرض المدنيين ـ خاصّةً النساء والأطفال ـ لهجوم، فهم مصونون؛ لأنّهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح.
كما يجب اجتناب التعرض للمزارع والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدوّ كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثوميّة.
وهذه المعاني السامية، والأخلاق الكريمة في التعامل مع العدو في ساحة المعركة وخارجها، تمثلها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في قتال أعدائه إذْ قال لأفراد جيشه كما ورد في نهج البلاغة وذلك قبل شروع القتال في صفين: ((لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم فإنَّكم بجهد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة أُخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذىً وإنْ شتَمْن أعراضكم وسَبَبْنَ أُمراءكم))([6]).
وهذه هي أوضح مصاديق أخلاق الحرب التي ندب إليها الإسلام في الآيات محل البحث، والتي تعرض إليها المفسرون، فضلاً عن تعرضهم لكلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، إذْ إنَّه أسَّس لمنطق التعامل مع العدو داخل المعركة وخارجها، وهو ما أفاده الشيخ مكارم في تفسيره الأمثل([7]).
بل إنَّ الإمام علي عليه السلام ذهب إلى أكثر من ذلك إذْ خاطب فريقاً من أصحابه الذين كانوا يسبون أتباع معاوية في حرب صفين، فقال: ((إِنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سبابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر))([8]).
ولاشك أنَّ هذا الخلق الرفيع في التعاطي مع العدو هو من آثار تعاليم القرآن الكريم التي عكسها عليه السلام وحولها إلى واقع عملي، إذْ إنَّ القرآن الكريم نهى عن شتم عقائد الكافرين؛ لانَّ أمثال هؤلاء إذا أُثير غضبهم سعوا للانتقام والثأر بأي ثمن كان، حتى وإنْ كان ذلك بالإساءة إلى عقائد مشتركة، لذا قال عز من قائل: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْم كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([9]).
وسلوك الإمام هذا بحدِّ ذاته تواصل مع منطق القرآن الكريم في ترك سبّ الضالين والمنحرفين، فقد أمر الإسلام كبار قادته بضرورة الاستناد إلى المنطق والاستدلال دائماً، وبلزوم تجنب شتم عقائد الآخرين، وقد استشهد صاحب تفسير الأمثل بنص كلام الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة([10]). )[11].
الهوامش:
([1]) البقرة / 90، 91، 92.
([2]) ظ : جامع البيان، ابن جرير الطبري، 2/ 258.
([3]) تفسير الثعلبي، الثعلبي، (ت 427هـ)، تحقيق: أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، 1422هـ ـ 2002م، 2/87.
([4]) الميزان، 2/51.
([5]) ظ: الأمثل، 2/ 18.
([6]) نهج البلاغة، 3/ 15.
([7]) ظ : الأمثل، 2/ 20.
([8]) نهج البلاغة، 2/ 185.
([9]) الأنعام، 108.
([10]) ظ: الأمثل، 4/ 427.
([11] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 205-209.