المجتمع وحالته في فكر الإمام علي (عليه السلام)

مقالات وبحوث

المجتمع وحالته في فكر الإمام علي (عليه السلام)

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 11-12-2023

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
لا نتوقع ونحن نبحث في فكر الإمام علي عليه السلام الاجتماعي الحصول على تعريف نظري للمجتمع لأنه لم يكن منظراً. ولكن من خلال مزاولته للحكم ومما أثر عنه من أقوال، يمكننا تصور الملامح الأساسية لذلك الفكر المستنير بهدي القرآن الكريم والسائر في خطى السنة النبوية الشريفة. فالقرآن الكريم يدعو ضمن آياته إلى التجمع البشري ويشيد بالرابطة الإنسانية كما في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}[1] والآية بما تضمنته من معان سامية، دعوة لبناء مجتمع إنساني واحد أساسه العدل والتعاون والمحبة دون أي تمايز بين أفراده إلا بالعمل المثمر الذي يعود على الإنسانية بالخير العميم وما تكرر كلمة (الناس) في القرآن الكريم في مئتين وأربعين[2] موضعاً الا دلالة على أن هدف الإسلام الأساسي هو بناء المجتمع المثالي «أمل الصفوة من المفكرين وحلم المصلحين»[3]. وقد تمكن الرسول صلى الله عليه وآله بالفعل من تحقيق ذلك الأمل في فترة وجيزة، حينما باشر في وضع اسس[4]، وذلك في السنة الأولى من الهجرة النبوية، بالمؤاخاة بين المهاجرين والوافدين على المدينة وبين الأنصار سكانها الاصليين، ثم بكتابة الوثيقة التي تنظم علاقات السكان من مهاجرين وأنصار ويهود. فبغض النظر عن التعرفيات النظرية يمكننا القول، بأن الرسول صلى الله عليه وآله من خلال قيامه بذلك العمل العبقري الجبار، قد كان على دراية تامة بأهمية التجمع البشري في بناء المجتمع ولذلك فُرضت الهجرة إلى المدينة[5]. واذا ما تمعنا في النصوص القرآنية والاحاديث النبوية، نخلص إلى نتيجة قوامها ان المجتمع في الفكر الإسلامي، يعني في الأساس تأمين الحياة الفردية والاجتماعية بأسلوب يتسم بالتوازن الذي يقتضي الا يكون الفرد أساساً في التشريع والحكم ولا يكون المجتمع هو الأساس الوحيد الذي تنبني عليه تشريعات الدولة، فالفرد بما له من خصائص إنسانية، هو عضو ضمن جماعة من الناس تتيح له ابراز تفرده وخصائصه على ان لا يكون ذلك التفرد على حساب الآخرين، فقول الرسول صلى الله عليه وآله «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى»[6] يعني أن الرابطة الاجتماعية في البناء الإسلامي تجعل من الفرد جزءاً من كل متكامل من حيث التعاون والتعاضد والمساواة لأن «مفهوم المجتمع في الإسلام يقوم على امرين: التعادل بين الفرد ذاته وبين الفرد الآخر، والثاني: التوازن بين الفرد والمجتمع»[7] ولو تتبعنا الفكر الاجتماعي عند علي عليه السلام لوجدناه ينطوي على تلك الثنائية بمعناها الشامل، فالإنسان السوي في فكر علي عليه السلام هو من لديه القدرة على فهم نفسه، حتى يتمكن من التعايش مع غيره لأن «الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل»[8]، ومعرفة النفس تحقيق لمكانتها، ومتى استطاع الفرد أن يتحقق من مكانته في مجتمعه، فستكون علاقته بالآخرين سوية لا تشوبهما شائبة ولا يعكر صفوها كدر وسيجنب نفسه التباغض والتحاسد محاولاً الدفع بالحياة إلى الإمام للرفع من مستوى المجتمع بوضع يده في يد الآخرين عن اقتناع جاعلاً نصب عينيه أن «من يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه ايد كثيرة»[9]، إذ لا يستطيع الإنسان العيش بمفرده دون تعاون الآخرين معه مهما بلغت امكاناته[10]. فإذا تم التعاون بين الأفراد ينهض المجتمع، وتتوسع المسؤوليات لتشمل كل ما يحيط بالإنسان ويتعلق به من طبيعة وحيوان[11]، ومن خلال مباشرة الفرد لتلك المسؤوليات الواسعة يتحقق التوازن بين الفرج والمجتمع، ولكن ذلك التوازن لا يمكن ان يستقر ويستمر الا إذا أحيط بسياج من النظم تحمي حقوق الافراد وتصون مصالحهم المشتركة، وحتى لا يستغل القوي الضعيف فكانت فكرة الحكومة كرادع اجتماعي.)[12].

الهوامش:
[1] الحجرات /13.
[2] راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم مادة (ن و س).
[3] محمد جواد مغنية ـ التفسير الكاشف 7/147.
[4] راجع ص 136 وما بعدها من هذا البحث.
[5] السابق.
[6] صحيح مسلم 4/999.
[7] سيد عبد الحميد مرسي ـ النفس البشرية ص 30.
[8] رسائل ـ 53 فقرة 23.
[9] خطب ـ 23 الفقرة الثالثة.
[10] راجع بذلك الشأن ضرورة التجمع البشري ـ مقدمة ابن خلدون ص 54.
[11] راجع خطب ـ 168 الفقرة الاخيرة.
[12] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 361-364.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2544 Seconds