من ألفاظ إيرادات الدولة في نهج البلاغة: الصَّدَقة

مقالات وبحوث

من ألفاظ إيرادات الدولة في نهج البلاغة: الصَّدَقة

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-02-2024

بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
ورد هذا اللفظ اثنتي عشرة مرة في كلام الإمام (عليه السلام)
ودل على المعنى الحقيقي وهو (الصدق في العطاء دون مراءاة) فجاء الاسم مجموعا جمعا مذكرا سالما، دالاً على الذين يمنحون الصَّدقَة، وقد وردت في (كتابه الى زياد): «أَتَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَأَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ! وَتَطْمَعُ ـ وَأَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي النَّعِيمِ، تَمْنَعُهُ الضَّعِيفَ والاْرْمَلَةَ ـ أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمتَصَدِّقِينَ؟»[1].
  وجاء الاسم مفردا معرفّا بـ(ال) منها قوله: «وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَصَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ»[2]،  فالصَّدقة على نوعين (صدقة السر التي تطفي غضب الرب وخصها بالذكر لكونها أبعد من الرّياء وخلوصها وتقربها اليه، وصدقة العلانية: التي تدفع السوء كالغرق والحرق.  فحسنات صدَّقة السِّر تتغلب على السيئات من الخطايا والذنوب، أما صَدَّقةُ العلانية: كمَن ينهار عليه نفق فيموت خنقاً او تلتهب فيه النيران فيهلك حرقاً أو يغرق فتأكله[3].

جاء هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[4].
و في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[5].
وقال (عليه السلام): «اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ، ومَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ»[6].
فجعلَ الإحسانَ والمساعدةَ عقيدة دينية يقوى بها المجتمع، وتعود عليه خيراتها وثمراتها، فإن قلً رزق أحدكم فليتصدق؛ لأنها سبب في إنزال الِّرزق وقسمته. 
وقال (عليه السلام): «سُوسُوا إِيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَادْفَعُوا أَمْواجَ الْبَلاَءِ بِالدُّعَاءِ»[7].
فسوَّس: قام ودبر، فأداء الزكاة موجب لاستغناء الفقراء وعفافهم عن مد أيديهم الى أموال اصحاب الزكاة، ويحصن المال بحفظه، والمعنى أنه لا إيمان يجدي بلا بذل كما لا بذلَ ينفع بلا إيمان، وأراد الإمام (عليه السلام) هنا أنَّ الصَّدقة هي نهاية تقرير قواعد الإيمان وإثباتها[8].

فالصِّدقُ: نقيضُ الكذب، والصِّداق والصُّدقَةُ والصّدْقُة: المَهْرُ، والمُتصَّدق: المُعطِى للصَّدقة[9].
وأصدقَ: أخذ الصَّدقات من الغنم، وفيها لمحة الى أنَّه صادق في عطائه غير مرائي فيه.  وهو ما يُتَصَّدق به المرء عن نفسه[10].
وأعطاها الصَّداق والصَّداق والصَّدقة، وتصَدَّق بماله عليه، وأخذ المُصدًق الفريضة[11].
وهي العَطَية التي يبتغى بها المَثُوبة من الله سبحانه.  وفي الاصطلاح الشرعي: هي تمليك في الحياة بغير عوضٍ على وجه القُربة إلى الله تعالى [12]، وروي في حديث الزَّكاة: «لا يُؤخَذُ في الصَدَّقة هَرمَة ولا تَيْس إلاَّ أن يشاءَ المُصَدِّق»[13].  قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[14].
تعاقب حرف الجر (في) واللام، فاقتران لام الملك بالأربعة الأُّول دليل على تمليكهم نصيبهم من الصَدَّقات، ومجيء (في) الظرفية مع الأربعة الباقية تعبير عن كونهم لا يملكون وإنَّما تصرف في شؤونهم، بدفع مال لمالك الرقبة لعتقها، وللدائن لخلاص الغارم، وتصرف في سبيل الله، وابن السبيل، وكررت مع (سبيل الله) تأكيدًا لأهمية الصَّرف[15].

قال الزمخشري: «وعدل عن اللام التي ـ في ـ في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في إستحقاق التصديق عليهم مما سبق ذكره، لأنَّ (في)  للوعاء فنَبَّه على أنَّهم أحقاء بأن تُوضَع فيهم الصَدَّقات،  ويجعلوا مظنة لها ومصبا»[16].
ولأن الاربعة الأولين تعطى لهم الأموال أمَّا الباقون فتصرف في سبيلهم. ومن الجدير بالذكر أن َّ القرآن الكريم إستعمل آيتين متشابهتين هما: قوله تعالى: «{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ}[17] مرة،  وقال: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[18].  مرةً أخرى، فالأولى «معلوم» في الزكاة، وفي غيرها في الصَّدقات، فالزَّكاة معلومة، والصَّدقة غير محددة أو غير معلومة، وتتوقف على كرم المُتصَّدِق، ويبدو أن استعمال القرآن الكريم لكلمة الصِدق يُشبِه استعمال العرب لها.  ونَظَرَاً للارتباط الشديد بين الزَّكاة والصَّدَقة وبالأخص في القرآن الكريم؛ إذ ذكرت الزَّكاة بلفظ الصَّدَقات جمع صَدقَة، ولا يعني هذا أنَّ الزكاة والصّدَقة مترادفتان ؛ بل إنَّ الزَّكاة بعض الصّدَقة،  فكلُّ زكاةٍ صَدقة،  وليس كلُّ صدقةٍ زكاة،  فللزكاة شروط وأحكام خاصة بها)[19].

الهوامش:
[1] نهج البلاغة:  ك 21،  281.
[2] خ 110،  115.
[3] ظ:  منهاج البراعة:  7 / 351 وظ:  في ظلال نهج البلاغة:  2 / 481.
[4] البقرة / 271.
[5] البقرة / 274.
[6] نهج البلاغة: الحكم القصار: 137، 374.
[7] نهج البلاغة: الحكم القصار 146، 374.
[8] ظ: منهاج البراعة 21، 246 وظ: في ظلال نهج البلاغة:  6 / 319 وظ:  الديباج الوضي:  5 / 2837.
[9] ظ: العين (مادة صدق):  5 / 56 ـ 57.
[10] ظ: مقاييس اللغة: 3 / 340.
[11] ظ: لسان العرب مادة (صدق): 1 / 542.
[12] ظ: التعريفات: 113
[13] النهاية في غريب الحديث والأثر: 511 (رواه ابو عبيد بفتح الدال والتشديد، يريد صاحب الماشية؛ أي: الذي اخذت صدقة ماله، فيما خالفه الرواة عامتهم اذ قالوا: بكسر الدال: عامل الزكاة الذي يستوفيها من اربابها، قال ابو موسى الرواية بتشديد الصاد والدال معا أي: صاحب المال، أي المتصدق فادغمت التاء في الصاد، والاستثناء في التيس خاصة، فالهرمة وذات العوار لا يجوز اخذهما في الصدقة. 
[14] التوبة / 60.
[15] ظ: مباحث في لغة القرآن الكريم وبلاغته: عائد كريم علوان: 50.
[16] الكشاف:  2 / 97.
[17] المعارج / 4.
[18] الذاريات / 19.
[19]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 184-186.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2498 Seconds