يطيب لي أن أتخذ من هذه الآية المباركة عنوانا ؛ لما ترشد إليه من عبر تتفق وما نروم طرحه في هذه الاسطر- وإن باختصار- الخلاف بين الإمام علي(عليه السلام) والذين حاربوه على حقه سواء أكانت حرب تنحية عن منصبه المنصوص عليه من الله سبحانه وتعالى بعد رحيل الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى، أم حروب الخروج عليه أيام خلافته التي وسمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله) بتسمياتها عندما عهد إليه ما سيؤول إليه أمر الأمة الإسلامية بعده، بقوله( صلى الله عليه وآله): (( ليرجعن أكثرهم كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وما بينك وبين أن ترى ذلك إلا أن يغيب شخصي عنك، فاصبر على ظلم المضلين، إلى أن تجد أعوانا، فالكفر مقبل والردة والنفاق في الأول ثم الثاني، وهو شر منه وأظلم، ثم تجتمع لك شيعة فقاتل بهم الناكثين والقاسطين والمارقين . . .))([2])، وما بنت عليه مدرسة الصحابة بعد ذلك من أحكام استنادا إلى عقيدتهم التي تقضي بعدالة كلِّ الصحابة، إذ يرون(( بموالاة كل من شهد بَدرًا مَعَ النبي (عَلَيْهِ السَّلَام)، وَقَطعُوا بأنَّهم من أهل الجنَّة، وَكَذَلِكَ كل من شهد بيعَة الرضْوَان بِالْحُدَيْبِية من أهل الجنَّة، وَقَالُوا قد صَحَّ الخَبَر بَأنَّ سبعين ألفَاً من هَذِه الأمة يدْخلُونَ الجنَّة بِلَا حِسَاب، وإنَّ كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم يشفع في سبعين ألفَاً))([3]) ثم ليحاكم الفرد منّا نفسه، وينظر في سبل نجاتها أحق وانصاف لها أن يتبع (( مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ))([4])، ويجعله مثلا له في أعماله بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله)، أم يتبع من ((كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ))([5])، وبذلك قد رُسِم أمامنا طريقان: طريق ذو نهج كثير العثرات ملتو يخطئ ويصيب، وطريق ذو منهج رصين مستقيم لم يعهد به زلة، ولم يؤخذ عليه مؤاخذة لا صغيرة ولا كبيرة، بالرغم من اجتهاد الأعداء على اقتناص صغائر الهفوات، بل يرشد إلى الهداية والنجاة وبذلك نعود للآية:( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى).
لا جدال أن الإمام علي( عليه السلام) جسد الإسلام بكل حركاته وسكناته، وها هو الإمام علي( عليه السلام) فرع من ذلك الأصل يمثله كما هو وامتداد له كما يحق، فإنه وليده وأخوه و وزيره ونفسه المقدسة وخليفته، ولقد بلغ من تمثل أصله القمة وهو أمة مستقلة ليس له في الأمة مثيل ولا لهم فوقه بعد نبيها دليل([6]).
ومع ذلك فقد سعت يد الطغيان إلى تنحية الإمام (عليه السلام) ومن بعده الأئمة الأطهار(عليهم السلام) عن مراتبهم التي رتبهم الله سبحانه وتعالى عليها، وتشدقوا وتشبثوا بحجج واهية لا حقيقة ولا حق لهم بها، كل غايتهم كسب مغانم الدنيا والعيش بزخرفها على حساب الدين وحقوق المسلمين، ضاربين صفحا عن الإرث المحمدي فيهم بكل تأكيداته ومواثيقه في تبليغهم عن دور الإمامة وتسنمها بعد النبوة زمام الدين وقيادة المسلمين، وهذه حكمة إلاهية رسمها لسعادة البشرية، ولكن للشيطان سطوته على هؤلاء النفر فأغراهم وزين لهم سوء أعمالهم فكانوا قوما بورا، فركبوا الأعاليل وفعلوا الأفاعيل بغير برهان ولا سابقة.
ونحن في هذا المضمار لا نريد أن نبرهن على حق الإمام علي (عليه السلام) وأفضليته بالخلافة وحسب، وانما نقدم هذا العمل لبيان حقيقة تميز بها جيش الإمام(عليه السلام) وظن الطرف الآخر على مرّ العصور أنها لهم، وعند البحث فيها نجدها من المناقب التي تحكم بحق الإمام علي(عليه السلام) وتبينه، إذ قال أتباع مدرسة الصحابة نحن نسلم برأي وفعل الصحابة السابقين وبالأخص البدريين فكانوا يستلهمون منهم أمور دينهم وعقائدهم. وأما الحروب التي جرت بينهم فلا يرون فيها تقصيرا على الصحابة ويبررون لهم قائلين: إنَّ الإمام علي (عليه السلام) و طلحة والزبير وعائشة في معركة الجمل، وبعدهم معاوية في حرب صفين كانوا مجتهدين ولكلٍّ منهم أجره، وأنَّ الله تعالى سيثيبهم ويدخلهم الجنَّة جميعاً، على فرقٍ أنَّ الإمام علي (عليه السلام) كان مجتهداً مصيباً وله أجره، ومن حاربه كان مجتهداً مُخطِئًا ولكن له أجره أيضاً، ثمَّ أنَّ هذه فتنة قد صان الله تعالى عنها أيدينا، فنسأل الله تعالى أن يصون عنها السنتنا، ويسكروا البحث في الموضوع لئلا تظهر ندب أصحابهم السوداء في جسد الأمة فيُفضَحُوا([7])، فلا وزر على من خرج على الخليفة الشرعي المنصب بالنص، محاولة لتمويه الحقيقة واخفائها من جهة، وابعاد المسلمين عن فكر آل البيت عليهم السلام وحقهم من جهة أخرى، واستمروا – مدرسة الصحابة- ينظرون إلى الصحابة مهما فعلوا بأنهم الفيصل في عقائدهم وأعمالهم حتى وأن تكررت هفوات كبار من يوقروهم وأخطائهم ، ضاربين صفحا عن من اجتمعت فيه الصحبة والقربى والعصمة وهو ( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) والعقل يقضي بـ (أَحَق أَنْ يُتَّبَعَ) بخلاف ( مَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)، وعليه فأين ما كانوا – الصحابة- ترجح كفة من انضووا تحت لوائه، وإن سلمنا جدلا وجعلنا هذه الضابطة مقياس لبيان الحق بالخلافة، و بيان الظالم في المعارك التي دارت بينهم وعليه يقع مثلبة سفك الدماء وأوزار الحرب، نجد كفة الإمام علي(عليه السلام) هي الأثقل حتى تبلورت لنا سلسلة من الصحابة البدريين الذين شاركوا في معركة بدر مع الرسول الكريم( صلى الله عليه وآله) ضدَّ كفار مكَّة ومعركة صفين، وقد تميزوا بمنزلةٍ سامية بمفهوم مدرسة الصحابة أيضا، بوصفهم الأسبق إيماناً وجهاداً([8])، ومع هذا لم يذعن المخالفون للحق لمّا تبين لهم.
الهوامش:
([1]) يونس: من الآية 35.
([2]) الإيمان والإسلام . . وما ينجي من النار . . وبعض النصوص في الردة والمرتدين، مركز المصطفى (صلى الله عليه وآله): 2/ 85.
([3])ينظر: الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله البغدادي التميمي الأسفراييني، أبو منصور (المتوفى: 429هـ): 1/344
[4])) غافر من الآية: 28.
[5])) هود من الآية : 17.
[6])) ينظر: علي والحاكمون: 8.
([7])ينظر: شرح العقيدة الطحاوية، صدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي، الأذرعي الصالحي الدمشقي (المتوفى: 792هـ): 1/493 – 494 .
([8])ينظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 3/129، الرَّوضُ البَاسم في الذِّبِّ عَنْ سُنَّةِ أبي القَاسِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ [وآله] وَسَلَّمَ - (وعليه حواشٍ لجماعةٍ من العلماء منهم الأمير الصّنعاني)، ابن الوزير، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي: 1/13 .