عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
خلق الله تعالى الخلق ولم يتركهم سدىً بلا نظام يرشدهم إلى طريق الصلاح والرشاد، وذلك أمر مفروغ منه بحسب مقتضى الحكمة الإلهية التي تستدعى أن تكون الأفعال معللة بالغايات، ومن هنا كان لابدَّ من وجود واسطة لتلقي الفيض الإلهي ترشد النَّاس إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، وهذه الواسطة لها صور شتَّى: فمرةً تكون رسولًا وأُخرى نبيًّا وثالثة عبدًا صالحًا كالخضر (عليه السلام) وغير ذلك ممَّن يجتبي الله تعالى .
واختيار الواسطة له شروط لا تتوفَّر عند الجميع؛ بل تكون عند فئة معينة يصطفيها الله تعالى لهذا الأمر فتكون بعنايته ورعايته منذ نشأتها الأولى وحتَّى ختام الحياة، وقد اصطفى الله تعالى على مرِّ العصور رجالاً ونساءً فكانوا واسطة فيض لطفه على البشر، وعندما نصل إلى عصر الإسلام نجد أنَّ الله تعالى قد اصطفى محمَّدًا بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) رسولًا إلى العالم بالهدى ودين الحق، ولمَّا كان الرسول هو الخاتم فلا بدَّ من تهيئة من يُكمل مسيرة اللطف والفيض الإلهي فيكون الواسطة بين الربِّ تعالى وبين البشر، ومن هنا عمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بيان خطِّ الاصطفاء من بعده وكذلك طريق استمراريته في حوادث شتَّى، ومن تلك الحوادث حادثة الكساء التي تواترت كلمات المسلمين على اختلاف مشاربهم في روايتها وممَّا جاء في ملخَّص هذه الحادثة ((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33] فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ))([1]) . والرِّجس والرجس كلُّ شيءٍ قذر([2])، وكلُّ ما استُقذر من العمل، والعمل المؤدي إلى العذاب، والشك، والعقاب، والغضب، والقبيح، واللعنة، والكفر([3]). وعلى هذا المعنى تواترت كلمات المفسِّرين، نذكر منها على سبيل المثال:
1. محمد بن جرير الطبري: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيراً))([4]).
2. الفخر الرازي: ((الرجس عبارة عن الفاسد، المستقذر، المستكره))([5]).
3. العلامة الآلوسي: ((الرجس في الأصل الشيء القذر، وقيل يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة، وعلى النقائض والمراد هنا ما يعم ذلك))([6]).
4. السيد الطباطبائي: ((الرجس بالكسر فالسكون صفة من الرجاسة وهي القذارة، والقذارة هيأة في الشيء توجب التجنب والنفر منها))([7]) .
والذنب من الرجس المستقذر المستقبح، ومن هنا كان ذهاب الرجس عن هؤلاء الذين تحت الكساء دليلًا على نقائهم واصطفائهم من لدن الله تعالى، إذ من الواجب أن تكون واسطة الفيض الإلهي معصومة عن كلِّ رذيلة مستقبحة حتَّى تكون أهلًا لأن يُقتدى بها .
وقد ضمَّ الكساء خمسة أشخاصٍ هم: رسول الله، وأمير المؤمنين، فاطمة الزهراء، والحسن، والحسين (صلوات الله وسلامه عليهم)، ولو تأمَّلنا هذه الأسماء وجدنا فيما بينهم محورًا ينبثق منه مصدر استمراريَّة الفيض، وهذا المحور هو الزهراء (عليها السلام)، إذ عن طريقها تلتقي النبوة (رسول الله) والوصاية (علي بن أبي طالب) ليصدر منها فيض الإمامة (الحسن والحسين وباقي الأئمة "عليهم السلام")، ومن تصبح فاطمة (عليها السلام) المحور في الاصطفاء الإلهي، وهذا الأمر يمكن أن نتلمَّسه بوضوح في حادثة الكساء التي وردت مفصَّلةً في مصادر الشيعة، وذلك برواية فاطمة (عليها السلام) بقولها: ((...فَلَمّا اكْتَمَلْنا جَمِيعاً تَحْتَ الكِساءِ أَخَذَ أَبِي رَسُولَ الله بِطَرَفَي الكِساءِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ اليُمْنى إِلى السَّماء وَقالَ : اللّهُمَّ إِنَّ هؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخاصَّتِي وَحامَّتِي لَحْمُهُمْ لَحْمِي وَدَمُهُمْ دَمِي يُؤْلِمُنِي ما يُؤْلِمُهُمْ وَيَحْزُنُنِي ما يَحْزُنُهُمْ، أَنا حَرْبٌ لِمَنْ حارَبَهُمْ وَسِلْمٌ لِمَنْ سالَمَهُمْ وَعَدُوُّ لِمَنْ عاداهُمْ وَمُحِبُّ لِمَنْ أَحَبَّهُمْ ، إِنَّهُمْ مِنِّي وَأَنا مِنْهُمْ فَاجْعَلْ صَلَواتِكَ وَبَرَكاتِكَ وَرَحْمَتَكَ وَغُفْرانَكَ وَرِضْوانَكَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ ، وَأذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً . فَقالَ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ): (يا مَلائِكَتِي وَيا سُكَّانَ سَماواتِي، إِنِّي ما خَلَقْتُ سَّماء مَبْنِيَّةً وَلا أَرْضا مَدْحِيَّةً وَلا قَمَراً مُنِيراً وَلا شَمْساً مُضِيئَةً وَلا فَلَكا يَدُورُ وَلا بَحْراً يَجْرِي وَلا فُلْكا يَسْرِي إِلاّ فِي مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمْسَةِ الَّذِينَ هُمْ تَحْتَ الكِساءِ) . فَقالَ الأمِينُ جبْرائِيلَ: يا رَبِّ وَمَنْ تَحْتَ الكِساءِ ؟ فَقالَ (عَزَّ وَجَلَ): هُمْ أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ، هُمْ: فاطِمَةُ وَأَبُوها وَبَعْلُها وَبَنُوها))([8]) .
فكان تعريف الله تعالى لأهل الكساء عندما سأل جبرائيل عنهم: ((فاطِمَةُ وَأَبُوها وَبَعْلُها وَبَنُوها))، فبدأ بفاطمة (عليها السلام) ومنها صار التعريف بالبقية، وما ذلك بحسب فهمنا إلَّا لأنَّها محور الاصطفاء، ومنها يستمرُّ مدده، ولهذا قال (بنوها) ولم يقل ابنيها بالنظر إلى الموجودينِ معها، وهما الحسن والحسين (عليهما السلام)، فكان تعبير (بنوها) يُشير إلى استمرارية فيض الإمامة في ذريتها، ومن هنا فالزهراء (عليها السلام) هي محور الاصطفاء ومداده، وهذا هو الواقع إذا كان الأئمة من ذريتها ونسلها . السلام عليك يا معدن النبوة ومصنع الإمامة ورحمة الله وبركاته...
الهوامش:
([1]) الجامع الكبير - سنن الترمذي: 5/204 ، المستدرك على الصحيحين: 2/451 .
([2]) ينظر: العين: 6/52 (مادة: رجس) ، تهذيب اللغة: 10/306 ، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: 3/933 ، المحكم والمحيط الاعظم: 7/268.
([3]) ينظر: لسان العرب: 6/95 (مادة: رجس) ، القاموس المحيط: 507.
([4]) جامع البيان في تأويل القران: 20/262.
([5]) مفاتيح الغيب: 17/169.
([6]) روح المعاني: 22/12.
([7]) الميزان في تفسير القران : 16/312.
([8]) مفاتيح الجنان: 868 – 869 .